مفردات كثيرة تآلف اللبنانيون معها منذ تشرين الأول الماضي، «اللولار» أو «الدولار اللبناني» واحدٌ منها. هو ليس تعبيراً عن عملة جديدة، بل عن حقيقة مُرّة يُراد إخفاؤها عن أصحاب الودائع بالدولار الأميركي: خسرتم أموالكم، وإن أردتم الحصول عليها فعليكم سحبها بالليرة بعد فقدانها أكثر من نصف قيمتها
كما يقوم الأهالي بخداع أطفالهم بروايات تقيهم «صدمة الحقيقة» منذ الصِّغر، هكذا يتعامل المسؤولون السياسيون والمصرفيون مع اللبنانيين. نيّة الأهل حسنة، فيما لاعبو الحالة الثانية «خُبثاء». من بين ألاعيبهم الكثيرة، يبرز اختراعهم لمفهوم «الدولار اللبناني». أرادوا إيهام المودعين بأنّ المبالغ التي وضعوها في المصارف بالعملة الخضراء محفوظة. فكانت الحاجة إلى اختراع تسمية جديدة لعملة غريبة، حتّى يسهل تصنيف الودائع التي بخّرتها سياسة المصارف ومصرف لبنان، ولن يُعاد تكوينها من جديد. هذا هو «اللولار»، الذي بات جزءاً من يوميات اللبنانيين. بدأ الحديث عنه أخيراً حين تهافت المودعون ليسحبوا دولاراتهم من المصارف، فرُدّوا خائبين. ولكنّه قديم العهد في البلد، منذ أن اعتمدت المصارف «نهج بونزي»، عبر تقديم فوائد عالية لقاء الودائع، وتمويل الفوائد والمدفوعات من أموال المودعين، حتى وصلت المصارف إلى مرحلة تعجز خلالها عن ردّ الفائدة أو أصل المبلغ إلى الناس. هذه هي واحدة من نتائج سياسة المصارف باستقطاب «ودائع ساخنة»، خروجها من البلد أسهل من دخولها، من دون أن تسعى إلى الإتيان بودائع استثمارية هادفة ومُنتجة، تُحرّك العجلة الاقتصادية وتنتج قيمة مضافة.
يتحدّث الخبير الاقتصادي، روي بدارو عن أنّ «الدولار اللبناني» بدأ حين جرى اعتماد «الـMultiplier Effects، أي عملية الأثر المُضاعف، نستقطب الدولارات من الخارج، وتتم مُضاعفتها. هناك أموال افتراضية على الدفتر ولا توجد مقابلها نسبة كافية من العملة الورقية إذا أُريد استبدالها». رغم ذلك، بقيت العملية «مقبولة بسبب استمرار التدفقات من الخارج»، بحسب بدارو. ملامح التغيير ظهرت منذ صيف الـ2019 حين بدأ يتفلّت سعر الصرف وتتشدّد المصارف في تلبية طلبات الزبائن. تجلّت الأزمة بشكل بارز في تشرين الأول من العام نفسه، بعد أن تذرّعت المصارف بالانتفاضة لإقفال الفروع ووضع «كابيتال كونترول» غير قانوني.
«بالاسم، لا تزال هذه العملة هي دولار. مشكلتها أنّه لا يُمكن تحويلها إلى الخارج، وأصبح هناك فرق في القيمة بين الدولار المسجون في الحسابات والدولار الذي يُستخدم لعمليات الاستيراد»، يقول رئيس مجلس الإدارة، المدير العام، لمصرف «FFA» جان رياشي.
كلام رياشي يقود إلى المشكلة الرئيسية في لبنان، وهي ربط الليرة بالدولار، إلى حدّ أنّ التداول بالأخير في السوق المحلية بات يتمّ بسهولة كما لو أنّه عملة وطنية. تدفع لصاحب الدكّان 50 ألف ليرة لشراء سلعة بـ30 ألف ليرة، فيردّ لك 10 دولارات وخمسة آلاف ليرة. توقّع عقد عمل مع شركة محلية، بالدولار الأميركي. تستأجر منزلاً، بالدولار. تجد سلعة مُسعّرة بـ150 ألف ليرة، فتدفع ثمنها 100 دولار. هذا إضافة إلى التسليفات بالدولار ووجود مقاصة محلية (أي عملية تبادل للشيكات بين المصارف) ضخمة في الدولار (بلغ بين 20/12/2019 و20/1/2020، عدد الشيكات 423 ألفاً و680 شيكاً، بقيمة 4 مليارات و417 مليون دولار)، نوعاً ما «مستقلة» عن مركز نيويورك… إلى هذا الحدّ كان التعامل بعملة أجنبية مُباحاً، ما أدّى إلى توسيع الكتلة النقدية المُكوّنة من الدولار، من دون أن تكون لدى المصرف المركزي قدرة على مواكبتها بتأمين السيولة، لأنّه لا يطبع إلّا العملة المحلية.
ارتفع التداول بالنقد اللبناني، في 7 أشهر، 10 آلاف مليارات ليرة
ما هو حجم الدولار المحلي في البلد؟ يقول المصرفي السابق، فريدي باز إنّه يوجد فقط 16.8 مليارات دولار أميركي في القطاع المصرفي، ولكنّها أيضاً «ليست ملك المصارف، وإنّما محجوزة في المصرف المركزي»، أي الاحتياط الذي يستخدمه «المركزي» لتمويل الاحتياجات الرئيسية. في المقابل، «يوجد 115.5 مليارات ليبانو دولار في المصارف اللبنانية». بكلام آخر، كلّ دولار خارج حساب الاحتياط الإلزامي في البنك المركزي هو عملة وهمية غير موجودة، ولا يُمكن الحصول عليها إلا بتحويل المبلغ إلى الليرة. بدأ الوعي يكبر حول هذه «الورطة»، لذلك باتت «أغلبية التجّار والصناعيين لا تقبل الشيكات بالدولار، حتى ولو أصدرت فاتورتها بالعملة الصعبة»، يقول باز، مستنداً إلى إحصاءات مصرف لبنان، ليذكر أنّه بين تشرين الأول 2019 ونهاية أيار 2020، «ارتفع التداول بالنقد اللبناني 10 آلاف مليارات ليرة، ما يعني أنّ اقتصادنا أصبح اقتصاد نقد (كاش)، ويضطر المصرف المركزي لضخّ كميات كبيرة من الليرة في السوق، ستنصبّ إما لشراء الدولار من السوق السوداء وتجفيف النقد أو الدفع وفق سعر الـ4000 ليرة و4200 ليرة للدولار الواحد». ويُشير إلى أنّ سحب هذه المبالغ «كلّف أصحابها 6 مليارات ونصف مليار الدولار، غطّتها المصارف حسب السعر الرسمي 1500 ليرة، واشتروا بحسب قيمتها في السوق بقيمة مليارين ونصف مليار دولار. هذا هو قصّ الشعر الحقيقي على حسابات اللبنانيين في المصارف». يتحدّث باز عن الحسابات الكبيرة وسوق التداول (سلع وخدمات) وليس الحسابات المصرفية الصغيرة التي سُمح لأصحابها بالسحب وفق سعر 3000 ليرة لكلّ دولار.
يوجد 115.5 مليارات «ليبانو دولار» في المصارف اللبنانية
كلّ هذه العملية تدخل ضمن «الدولار اللبناني»، الذي بات حجمه كبيراً بما ينعكس سلباً على مستوى عيش المواطنين. وقد عمدت المصارف أخيراً إلى مُضاعفة كتلة «اللولار»، حين طرحت مُنتجها الجديد وهو تسجيل وديعة «الدولارات الجديدة» (Fresh Money) التي يأتي بها الزبون، 2.1 مرّة ضعف المبلغ (إذا أتى زبون إلى المصرف حاملاً 10 آلاف دولار، يُفتح له حساب بـ21 ألف دولار)، ولدى بعض المصارف تصل النسبة إلى 2.5، ولا يُسمح بسحبها إلا بالليرة وفق سعر الصرف الرسمي (1500 ليرة للدولار). وعلى الرغم من التحذيرات القانونية للمصارف بالتوقّف عن توفير هذا المُنتج، فإنّ المعلومات تؤكّد أنّها مُستمرة بتقديمه بطريقة مُستترة ولزبائن نافذين. يقول باز إنّ أكثر المستفيدين من هذا المُنتج «هو المدين بالـ«ليبانو دولار»، سيكون أوفر بالنسبة إليه إن أتى بدولارات جديدة يوفي بها دينه بأدنى من قيمته الفعلية»، وفي المقابل تستفيد المصارف من إعادة تكوين موجوداتها بالعملات الأجنبية وضخّ الدولارات في حساباتها بالخارج.
ولكن أصحاب الحسابات بالدولار التي بُخّرت، هل سيستعيدونها؟ يُجيب جان رياشي بأنّ «الوديعة ليست أمانة، بل دَين على المصرف، يجب عليه أن يُعيده. قانون النقد والتسليف يسمح له أن يوظّفها، على أن يلتزم بقيود السلطات النقدية والمصرفية». هل ستتمكن المصارف من إيفاء المبالغ؟ «تبيّن وجود تعثّر كبير. الخلاف اليوم محلياً، هو حول إمكانية استعادة الودائع في المدى المنظور».
قبل «اللولار»… كان «الزولار»
نادرةٌ هي البلدان التي يوجد فيها «دولار محلّي»، ولكنّ توجد حالة في العالم تُشبه إلى حدّ الاستنساخ الحالة اللبنانية: «الزولار» (RTGS) في زيمبابواي، وتقرّر اعتماده منذ كانون الثاني 2019 بسعر صرف عائم، بعد أن انخفضت قيمة العملة 60%. في الـ2019، نشرت أسبوعية «الايكونوميست» مقالاً يشرح كيف أنّه منذ الـ2015، عجزت زيمبابواي عن استقطاب الدولارات الكافية لتمويل الإنفاق. يومها، كان مسموحاً التداول في الدولار والعملات الأجنبية الأخرى في البلد. فقامت السلطات بـ«صناعة عملة محلّية، حُوّلت إلكترونياً إلى حسابات المودعين بالدولار، مع الزعم بأنّها مُطابقة للدولار الأصلي. ولكن حين يسحبها الزبون من المصرف، فلن يحصل على الورقة الخضراء، بل الورقة التي أصدرها البنك المركزي في زيمبابواي… كان يوجد في النظام المصرفي قرابة الـ9.7 مليارات دولار من الودائع بالزولار، وفقط 660 مليون دولار أصلي». بقيت الحكومة مُصّرة على روايتها بأنّ كلّ «زولار» يُساوي دولاراً واحداً، إلى أن اضطرت بعد تأزّم الوضع إلى الكشف عن خديعتها. قام البنك المركزي الزيمبابواي «ببيع كمية صغيرة من الدولار الأميركي بسعر الصرف الرسمي، واحتفظ بما يحتاج إليه لتأمين الاستيراد من الحبوب والوقود والمواد الأساسية للإنتاج»، بحسب مقال «الايكونوميست». وبعد اعتماد «الزولار»، فُرضت قيود على التحويلات إلى عملات أخرى وضوابط على حركة رأس المال، ما أدّى إلى نشاط السوق السوداء، وفقدان الأسر لقيمة مداخيلها.