الـ”يوروبوندز” يهوي ويشدّ لبنان نزولاً!

لم تنجح أي دولة في التاريخ الحديث في الخروج من مثل هذا الانهيار في أسعار سنداتها أسوة بدول عدة عمد لبنان الى إصدار سندات خزينة بالعملة الأجنبية، أو ما يُعرف بـالـ “يوروبوندز” لتمويل نفقاته. فهذه الطريقة هي واحدة من السياسات الأساسية التي اتّبعت لجذب الدولار من أجل تمويل عجز الدولة والحفاظ على الإستقرار النقدي. المصرف المركزي إضطلع بمهمة الإصدار، والبنوك التجارية اللبنانية، وبعض المؤسسات الخارجية والأفراد اكتتبوا فيها على فترات زمنية مختلفة. العملية كانت حتى الأمس القريب ناجحة بدرجة ممتازة، إلا انها مع انخفاض تصنيف لبنان بدأت تأخذ منحى تراجعياً دراماتيكياً، حتى وصلت أخيراً الى ما يشبه الكارثة.

يُشير مؤشر “بلومبرغ” الى تراجع تاريخي في “سندات اليورو” اللبنانية، في الأسواق العالمية. وهذا يظهر في شكلين: الأول، يتمثل في ارتفاع كلفة التأمين على السندات الى مستويات تاريخية، في ظل الإعتقاد أن لبنان سيتخلّف عن الإيفاء بديونه الخارجية. فارتفع تأمين الـ “يوروبوندز” في الأيام الماضية في بورصة نيويورك بمعدل 50 في المئة، قافزاً من 1300 نقطة في شباط العام الحالي الى حدود 4939.5 نقطة. والثاني، انهيار أسعار الـ “يوروبوندز”، حيث يتوقع حامل السهم عند الإستحقاق الحصول على قيمة السهم مقابل عائد معين هو الفائدة، أو الإقتراض عليها أو بيعها والتخلص منها قبل الإستحقاق بسعر يحدده السوق.

ففي شباط الفائت كانت قيمة سند الـ 100 دولار في السوق تُقدّر بحوالى 86 دولاراً، أما اليوم فقد انخفضت قيمة السهم الى 49 دولاراً، وهذا يعني بحسب مؤشر “بلومبرغ”، أن من يحمل سندات الخزينة اللبنانية التي تستحق بعد سبعة أعوام، أصيب بخسائر كبيرة جداً، نتيجة هذا التراجع التاريخي بالأسعار. وبحسب محللي بلومبرغ “لم تواجه أي من الدول في التاريخ الحديث مثل هذا الانهيار بأسعار سنداتها ونجحت في الخروج من الازمة”.

أسباب الإنهيار

تراجُع الأسعار هو السبب، والمسبِّب في الوقت عينه، لازدياد عمليات التخلّص من السندات. إذ ان قلق المستثمرين الأجانب والصناديق الإستثمارية من انخفاض تصنيف لبنان السيادي الى مرحلة العجز عن الإيفاء بديونه، وتفضيلهم البقاء بعيداً من المخاطر، يدفعهم إلى التخلص من هذه السندات ولو بأسعار محروقة، خوفاً من إنهيار أكبر في المستقبل. في المقابل، ان زيادة العرض وتراجع الطلب أو انعدامه في الاسواق تؤدي الى انخفاض في الأسعار. هذا وترجع بعض النظريات أسباب إنهيار الأسعار الى تنازل المصارف، الحامل الأكبر للـ “يوربوندز”، عن السندات بأسعار أرخص نتيجة حاجتها الكبيرة إلى الدولار.

ترتبط أسعار السندات بعلاقة عكسية مع معدل العائد، أي كلما انخفض السعر، يرتفع العائد، حيث يَنتظر حامل السند مردوداً مرتفعاً يغطي المخاطر. وهذا بدوره كان يجذب المستثمرين في الماضي، أما اليوم ومع ملامسة المخاطر الخط الاحمر، فان المستثمرين يبتعدون عن الإستثمار بالسندات اللبنانية مهما إرتفعت العوائد عليها. وهذا يسبب المزيد من الإنهيار.”نتيجة الغرق على عمق 10 أمتار لا تختلف عن نتيجته على عمق 3 أمتار”، يقول المستشار في الأسواق المالية دان قزي، ويشير إلى أن “واقعة إنهيار سندات الـ “يوروبوندز” حصلت. وسواء كانت كلفة التأمين عليها 5 آلاف نقطة أم الف نقطة، فإن النتيجة واحدة، وهي أن تقييم لبنان في الأسواق سيئ، وأنه وصل الى مرحلة العجز عن الإيفاء بديونه. وعلى عكس ما يعتقد الكثيرون فإن قزي يرى “ان هذا الوقت هو الأنسب والأربح للإستثمار بالسندات اللبنانية وليس التخلص منها”. وجهة نظر تستحق الوقوف عندها. فهذه السندات برأي قزي تشكّل فرصة نادرة. لماذا؟

تبلغ قيمة سندات الـ “يوروبوندز” المدينة حوالى 29.8 مليار دولار. يحمل الأجانب بين أفراد أو صناديق أو مستثمرين ما بين 5 و10 مليارات دولار، وهذا الخلاف يعود الى اختلاف الأرقام بين المركزي ووزارة المالية، فمصرف لبنان يقول إن الأجانب يحملون 5 مليارات دولار، فيما تقول الوزارة إن المبلغ هو 10 مليارات، وبالتالي فإن هناك 5 مليارات دولار مفقودة. وبغضّ النظر عن الرقم الدقيق فإن السندات للأجانب تمثّل 16 في المئة من قيمة الـ “يوروبوندز”، وهي تشكّل نحو 6 في المئة من مجمل الدين العام اللبناني، الذي يبلغ 86.5 مليار دولار من دون احتساب ديون مصرف لبنان البالغة 10 مليارات دولار.

وبالتالي فإنه بحسب قزي “ليس هناك عاقل ممكن أن يتخلّف عن سداد فوائد بنسبة بين 5 و10 في المئة من الدين العام ويعلن افلاسه. فالمعنيون، أي “المركزي” تحديداً، ممكن أن يشتري المبلغ من الأسواق بأي طريقة ولو بأسعار مرتفعة، لإبعاد كأس الافلاس المرة. أما بالنسبة الى الديون الداخلية فمن الممكن إيجاد الهندسات المالية المناسبة للتخلّص من ضغطها مرحلياً”.

التخلّف من عدمه

نظرية تخلّف لبنان عن سداد ديونه وإعلان افلاسه قد تكون منطقية من وجهة نظر حاجة لبنان الى المجتمع الدولي “لإعادة الإعمار” بعد هذه الكبوة. فنتائج السمعة السيئة إذا اقترنت بالتطبيق، ستكون قاتلة في المستقبل القريب. فيما من الممكن ان ينجو لبنان من الأزمة باللجوء الى عملية استدانة جديدة من الأسواق بعد الإنتهاء من عملية الإصلاح داخلياً.

في المقابل، ان الأرقام المحقّقة على الصعيدين المالي والنقدي والمترافقة مع واقع سياسي عقيم عاجز عن استيلاد أي حل، تعقّد الأمور وتدفع لبنان مرغماً إلى التخلف عن ديونه الخارجية مهما صغرت. وبين التخلّف وبين عدمه فترة وجيزة ستحدّدها الأيام القليلة القادمة.

خالد أبو شقرا – نداء الوطن

المادة السابقة«كابيتال كونترول» بلا قانون…المصارف تحتجز أموال المودعين
المقالة القادمةإرتفاع الميزانيّة المجمَّعة للمصارف وزيادة في موجودات القطاع المصرفي