إنهيار أسعار النفط ليس تفصيلاً بسيطاً على هامش الأزمة “الكورونية” العالمية، بل انه واحد من أخطر العناوين الإقتصادية التي ستترك تداعياتها نتائج مفصلية على اقتصاديات العالم. في النفط، لا تتعلق استعادة العافية بانتهاء المشكلة فوراً، وهذا ما برهنت عنه التجارب التاريخية في 1973 و2008 وغيرها الكثير من المحطات. وإلى حين عودة الطلب كما كان، فإن كيانات وشركات وحتى دولاً ستتصدع من زعزعة وقود محرك البشرية.
في الشكل تراجع الطلب العالمي على النفط مع بداية العام، مع التوقع بأن يصل الإنخفاض الى 10 ملايين برميل يومياً في نيسان الحالي؛ تراجع كان يجب مقابلته بتخفيض الانتاج بنسبة مماثلة للمحافظة على الأسعار، التي كانت تتراوح بين 57 إلى 62 دولاراً للبرميل الواحد. إلا انه في المضمون أدى رفض روسيا، التي تربطها مع دول منظمة أوبك اتفاقية أوبك بلاس، تخفيض الانتاج بهدف عدم رغبتها بتراجع حصّتها السوقيّة أو لاسباب أخرى جيوسياسية، إلى زيادة الانتاج في دول أوبك وعلى رأسها المملكة العربية السعودية المنتج الأكبر في العالم بحصة سوقية تتجاوز 9 ملايين برميل يومياً، والتي تنوي رفعها الى 13 مليون برميل في اليوم الواحد. الأمر الذي أدى إلى انهيار أسعار النفط وملامسة خام غرب تكساس 23 دولاراً للبرميل، مع التوقع بحسب مجلة فوربز “أن يصل إلى 10 دولارات مع انخفاض استهلاك البنزين بنسبة 50 في المئة، واضمحلال الطلب على وقود الطائرات بسبب تراجع الرحلات الجوية بنسبة 87 في المئة”.
تعطل الصناعة النفطية
الفجوة بين العرض والطلب تستمر في الإتساع، حيث من المتوقع ان يصل تراجع الطلب برأي فريق “غولدمان ساكس” إلى ما يقرب من 19 مليون برميل يومياً في الربع الثاني من العام الحالي. وهو ما بدأ يدفع الشركات النفطية إلى تخفيض الإنفاق في موازناتها التشغيلية بمقدار 40 مليار دولار، نصفها كان مخصص لاستخراج الغاز الصخري في الولايات المتحدة الاميركية. حيث ستضطر شركة أوكسيدنتال بتروليوم إلى الوقف عن الحفر موقتا في حقل Permian Basin، فيما ستحتاج شركة Big Oil إلى إغلاق آبار النفط تماماً، لأنه سرعان ما ستنفد خزانات التخزين الكافية والناقلات العائمة لوضع المواد المستخرجة.
بالإضافة إلى مشاكل التخزين والتصريف فان انخفاض أسعار النفط يجعل من آلاف الآبار ذات كلفة الإنتاج المرتفعة غير مجدية. فكلفة استخراج البرميل الواحد تصل في دول منظمة أوبك الى 9 دولارات، وترتفع في الدول الأخرى إلى حدود 15 دولاراً. فيما تصل في حقول النفط الصخري في الولايات المتحدة الأميركية الى 25 دولاراً. وهو ما يدفع بحسب الخبير النفطي د. ربيع ياغي “إلى توقف عشرات منصات الحفر اسبوعياً، وهو ما سيفاقم الأزمة النفطية وسيؤدي الى انهيار كامل باسعار النفط لا أحد يعرف إلى اين يصل. فقد يصل سعر البرميل الواحد إلى 10 دولارات أو قد يتدنى أكثر من ذلك”. وعليه سيتوقف الإستخراج في الآبار الصعبة وستنخفض شهية الشركات على الدخول في عمليات بحث واستكشاف واستخراج جديدة.
لبنان لن يستفيد
السؤال الأول الذي يتبادر إلى ذهننا هو هل ستتأثر عمليات استكشاف النفط في بحر لبنان، وهل من مصلحة الشركات الإستمرار في عمليات البحث والتنقيب أم أنها من الممكن ان تتوقف؟
بحسب ياغي،”لا يؤخذ هبوط الأسعار المرحلي وارتفاع كلفة استخراج البرميل بالمقارنة مع السعر المتداول سبباً بحد ذاته لتباطؤ عمليات الإستكشاف والتنقيب في لبنان. إذ ان الاسعار الهابطة اليوم تعتبر موقتة ولا أحد يعلم ما قد يحصل او الأسعار التي قد يصلها النفط بعد 10 سنوات، أي عند بدء عمليات الإستخراج الفعلية في حال كانت كل النتائج إيجابية. انما الذي يؤثر بشكل مباشر هو ان تراجع عائدات شركات النفط العالمية نتيجة هذا الإنهيار يؤدي إلى تراجع استثماراتها، والتي تعتبر عمليات الإستكشاف والحفر وانشاء معامل جديدة والتنقيب جزءاً منها”. وبالتالي لن نشهد في لبنان، برأي ياغي، “توقفاً لأعمال الإستكشاف انما تباطؤاً في المستقبل القريب. خصوصاً مع المتوقع ان يسيطر انخفاض اسعار النفط على كامل العام 2020 ومن الممكن ان ينسحب على العام 2021 أيضاً”.
عودة ضريبة الـ 5 آلاف
التباطؤ في عمليات الإستكشاف يجب أن يعوّض عنه في تراجع الفاتورة النفطية. فالمستوى المتدني من الأسعار عالمياً يجب ان ينعكس أولاً، انخفاضاً في فاتورة الكهرباء التي تمتص سنويا 2.5 مليار دولار من الخزينة، وبالتالي تقليص عجز الموازنة. وثانياً على تعزيز القدرة الشرائية للمواطن من خلال تخفيض فاتورة المشتقات النفطية من بنزين ومازوت وغاز، ومن بعدها أسعار الكثير من السلع والخدمات التي جرى رفعها أخيراً بحجة ارتفاع أسعار المحروقات. إلا انه في الواقع فان المواطنين الذين يرزحون تحت ثقل أسوأ أزمة اقتصادية، لن ينالوا من “جمل” انخفاض أسعار النفط إلا أذنه. فسعر صفيحة البنزين ثبت عند حدود 23 الف ليرة ولن يتراجع حتى ولو أصبح سعر برميل النفط دولاراً واحداً. وفي هذا السياق يقول مستشار نقابة أصحاب المحطات فادي أبو شقرا انه “ابتداء من الأربعاء القادم ستبدأ الدولة بتحصيل ضريبة الـ 5 آلاف ليرة الشهيرة رسمياً على كل صفيحة بنزين. إذ انه بحسب السعر العالمي يجب ان يكون سعر الصفيحة في لبنان بحدود 18 الف ليرة”. الضريبة على البنزين التي يعتقد الكثيرون انها “شر لا بد منه”، أتت، برأي أبو شقرا، “مخففة ومحمولة نتيجة الإنخفاض العالمي في سعر النفط”. الأمر الذي عزز الخوف من ألا يصب الوفر المحقق من تراجع الأسعار العالمية في مصلحة الإقتصاد، نتيجة استمرار غياب خطة اقتصادية واضحة وعادلة. وبدلاً من يكون هذا الانخفاض فرصة جدية لانعاش الإقتصاد يستمر في تضييعة في “زواريب الصفقات وتقاسم المغانم”.
الأزمة المستمرة لا تعني بالضرورة ثبات سعر النفط على 20 دولاراً للبرميل انما الذي يحدث “هو موجات من تغير الاسعار تعرف بـ “مضاربات السوق”، يقول ياغي، “حيث تستفيد منها دول مستوردة للنفط بالمطلق مثل الصين واليابان وكوريا الجنوبية، الذي يساعدها تراجع الأسعار على بناء مخزونات استراتيجية بأسعار منخفضة. ويساهم في تعافي وازدهار اقتصادياتها قبل غيرها. انما الصدمة الكبيرة ستكون على اقتصاديات دول أوروبا والأميركيتين والشرق الاوسط المنتجة والتي تعتبر اقتصادياتها مبنية على الانشطة النفطية وعلى عائدات النفط.