يعيش لبنان منذ خمس سنوات بلا مصارف، أو بالأحرى، بمصارف «زومبي». فالوظيفة الوحيدة التي تمارسها المصارف الآن: الانتظار. هي مفلسة بلا إشهار، وإحياؤها يتطلّب توزيع الخسائر وضخّ رساميل جديدة وإقرار قوانين. ما هو مطلوب تقاربه قوى السلطة بمواصلة شراء الوقت. هذا الوضع حوّل سوق الوساطة المالية في لبنان إلى فرصة استثمارية يُنظر إليها من الخارج والداخل. من يدخل إلى هذه السوق سيستحوذ على حصّة كبيرة من الأموال المخزنة في المنازل، والقروض التي لا تمويل لها اليوم، فضلاً عن خدمات الزبائن مثل توطين الرواتب ودفع الفواتير وسواها. قبل فترة، تسرّبت أخبار من اتحاد المصارف العربية عن مصارف أجنبية وعربية تدرس «الفرص» في القطاع المصرفي اللبناني والوقت السانح للدخول.
لكن يبدو أن متطلّبات الفرصة ليست تمويلية وتقنية فقط، إنما هي سياسية أيضاً. إذ ليس من مصلحة أي مستثمر أجنبي، الاستثمار من دون أن يعلم حجم الخسارة التي ستلحق به عند توزيع الخسائر. ثمة الكثير مما هو مطلوب قبل طرح الأسئلة التقليدية عن الحصص السوقية؛ يدرك المستثمرون أن فرصة الربح قائمة، وأن دوافع هروب المصارف الأجنبية من لبنان في السنوات الماضية لا تتعلق بالربح والخسارة، وإنما بالمخاطر السيادية وأبرزها توظيف الأموال لدى مصرف لبنان.عندما كانت حكومة حسان دياب تناقش وضع خطّة لتوزيع الخسائر والتعافي، اقتُرحت فكرة إصدار خمس رخص مصرفية جديدة. كان الهدف إجبار المصارف الساعية للخروج من الإفلاس بما نهبته في السنوات الماضية على شكل أرباح ورساميل وأصول، على الإنخراط في توزيع الخسائر وضخّ رساميل جديدة. أحبط المشروع، وظلّ صداه يتردّد بين الحين والآخر. في هذا الوقت، بدأت تظهر تحوّلات القطاع المالي في لبنان. فلم تعد المصارف تؤدي وظيفتها الكلاسيكية في استقبال الودائع وإقراض الزبائن، بل تكيّفت السوق مع واقع جديد هو اقتصاد الكاش المدولر. وأصبحت الخيارات على النحو الآتي: وديعة (فريش) في مصرف لا ثقة فيه تفرض عليها عمولات مرتفعة وهي غير مجمّدة في حسابات جارية تحت الطلب الفوري (مدّة الإيداع قصيرة ولا تتجاوز بضعة أشهر) يقدّر أن حجمها يفوق 3 مليارات دولار، أو خزنات أموال في المنازل، أو مؤسسات مالية تقدّم خدمات مالية إلكترونية مثل OMT وغيرها، أو جمعيات مالية مثل القرض الحسن.
في خضم هذه التحولات، تردّدت معلومات (قبل بضعة أشهر) عن اهتمام مباشر لمستثمرين أوروبيين وعرب في شراء مصارف لبنانية. بعض المستثمرين اتصلوا بعاملين في سفارات لبنانية للاستفسار عن ميزانيات المصارف والمفاضلة بينها. الفرصة تكمن في الاستحواذ على النشاط المنتقل حالياً من المصارف إلى خارجها. لكن فكرة إعادة إحياء القطاع المالي تبدو كأنها محض أمنيات. فهناك مخاطر جمّة، من أبرزها أن أصحاب المصارف في لبنان يحاولون قطع الطريق أمام أي استثمار أجنبي للحصول على فرصة «العيش» مجدداً بعد تمويل الخسائر من «الدولة»، إلى جانب مخاطر سيادية تتعلق بأن أصحاب المصارف وكبار المودعين يمنعون أي مشروع لتوزيع الخسائر وإعادة هيكلة المصارف. كما أنّ هناك مخاطر أساسية متصلة بالاقتصاد السياسي، فمن دون خطة واضحة للمستقبل وبلا استقرار نقدي، سيكون من الجنون الاستثمار في القطاع الآن.
للوهلة الأولة تبدو احتمالات الربح عالية أمام مصرف جديد أو مصرف قديم بحلّة جديدة (rebranding). لكن ليس الأمر بهذه السهولة. يقول الوزير السابق منصور بطيش: «قبل أي شيء يجب أن يكون هناك اعتراف بالخسائر وإعادة هيكلة للقطاع المصرفي». ثم يسأل «هل هناك خطّة اقتصادية تنموية تحدّد الدور الذي ستقوم به المصارف وشكل القروض وغيره؟ فإذا افترضنا أن هناك مَن يرغب في شراء مصرف في لبنان، فهل تتم الصفقة من دون أن يعرف الشاري المحتمل وضع المصرف المالي وصافي أصوله؟ كيف نعيد إحياء القطاع المالي قبل تعديل قوانين القطاع المصرفي؟ هل ستبقى الهيئات الرقابية بشكلها الحالي؟ أي يديرها حاكم المصرف أياً يكن؟ أم سيكون لديها صلاحيات تسمح لها بهامش سلطة كالهيئة التي في فرنسا مثلاً الـ(ACPR)؟ هل ستبقى أيضاً هيئة الأسواق المالية تابعة للحاكم؟».
إلى جانب ذلك، ثمة أسئلة لا تتعلق بالهيئات الرقابية، وإنما بنموذج عمل الاقتصاد ودور المصارف فيه: «هل سيتم تكرار الخطأ واستثمار الودائع بالعملات الأجنبية في الاقتصاد المحلّي؟» فالدور الرئيسي للمصارف هو تحويل الودائع التي هي (مواد أولية) إلى (منتج) اسمه قروض، وذلك يجب أن يكون في خدمة اقتصاد منتج «وأيّ دور غير ذلك لن يجدي» يقول بطيش.
لا أجوبة حتى الآن عن كل هذه الأسئلة. وبحسب رئيس المركز الاستشاري للدراسات والتوثيق عبد الحليم فضل الله، فإن دخول مصارف أجنبية جديدة إلى لبنان «هو سيناريو خطير من ناحية الرقابة الخارجية، ومن ناحية تهميش دور المصرف المركزي، ودفع المصارف الأخرى إلى الإقفال كلياً». وأكثر من ذلك، فإن فتح فروع لمصارف أجنبية في لبنان هو بمثابة «بناء طابق مالي جديد فوق طابق كلّه خسائر. فهذه المصارف لن تكون نقيّة، بل إن المطلوبات الجديدة لديها أي (الودائع) ستتلوّث مع المطلوبات القديمة في المصرف المركزي، وذلك بحكم أن المصارف ملزمة بأن تضع نسبة من مطلوباتها في المركزي».
الفرز على أساس «إقراض الدولة»
خرجت المصارف الأجنبية من لبنان خلال الحرب الأهلية على سبيل المثال لا الحصر: (Bank of America, Citibank, First National Bank of Chicago, Bank Of nova scotia) ومن ثم عادت إلى بيروت باستثناء (Bank of America) بعد انتهاء الحرب في أول التسعينيات. أيضاً فتحت مصارف جديدة أبوابها مثل المصرفين الألمانيين Commerzbank وberliner Bank. ولكن هذه المصارف عادت وخرجت سريعاً. هذا ما يرد في دراسة أعدّها ديفيد بيترز وإلياس رعد وجوزف سينكي بعنوان «أداء المصارف في لبنان بعد الحرب». وما لم تقله الدراسة، أن سبب خروج هذه المصارف متصل بامتناعها عن إقراض الدولة بالدولار، واستحواذ المصارف المحلية على سوق إقراض الدولة ونفخ الرساميل والأرباح، أي سرقة الودائع.
الورم المصرفي
في 2018، بلغت نسبة أرباح المصارف اللبنانية من الناتج المحلي 4%، مقارنة مع 2% في بريطانيا. في تلك الفترة، كانت لندن المركز المالي لأوروبا، بينما خسر لبنان دور المركز المالي في الشرق الأوسط منذ زمن. الفرق بين القطاع المصرفي في البلدين، يمكن أن يقاس بعدد الصرّافات الآلية في العاصمة. ففي بيروت، التي تبلغ مساحتها 67 كيلومتراً مربعاً وعدد سكانها 2.4 مليون نسمة، وصل عدد الصرّافات الآلية فيها إلى 724 في عام 2018، أما في لندن التي تبلغ مساحتها 1572 كيلومتراً مربعاً وعدد سكانها 14 مليون نسمة، فقد وصل عدد الصرّافات الآليّة فيها إلى 830 عام 2018. في الواقع، انتفاخ القطاع المالي في لبنان تطوّر من 549 فرعاً مصرفياً في 1993 إلى 1081 فرعاً في 2018، وكان حجم الودائع يبلغ 4.4 مليارات دولار ووصل إلى 164 مليار دولار، أما رساميل مصارف لبنان فكانت 148 مليون دولار في مطلع التسعينيات، وازدادت إلى 22 مليار دولار.