الفساد المصرفي اللبناني أمام القضاء الأميركي

تقدم أحد الأطباء، وهو أميركي من أصل لبناني، وزملاء له، بواسطة أربعة مكاتب محاماة أميركية متخصصة بالملاحقات القضائية الجماعية المعقدة، بادعاء غير مسبوق أمام محكمة ولاية نيوجرسي على مصرف لبنان وحاكمه السابق رياض سلامة وستة مصارف لبنانية وأربعة مفوضي مراقبة للمصارف، بجرم «تأليف عصابة أشرار» تولت هندسة مخطط استقطبت المصارف بمقتضاه ودائع بالدولار من الأميركيين من أصل لبناني، من طريق إغرائهم بمعدلات فوائد مرتفعة، على أن توظف المصارف بدورها هذه الودائع لدى مصرف لبنان بمعدلات أعلى، محققة أرباحاً كبيرة عادت على المشاركين في المخطط بتوزيعات وإيرادات سخية.

ولإنجاح المخطط، عمد المدعى عليهم، وجاراهم مسؤولون في الحكم، إلى تصوير النظام المصرفي اللبناني بأنه متين ومزدهر، وبأن الليرة مستقرة، بالإشارة إلى أن سلامة مُنح العديد من الأوسمة والميداليات والألقاب كأفضل حاكم مصرف مركزي محلياً وإقليمياً ودولياً.

خلال العام 2016، بدأت الودائع الخارجية بالتراجع، وبدلاً من أن يعمد مصرف لبنان إلى إعادة تصميم النظام المصرفي، أوغل في إطلاق هندسات مبتكرة بتكلفة أكثر سخاء، في حين كان المجلس المركزي لمصرف لبنان يدرك مسبقاً أنها غير مستدامة.

كارثة أخلاقية أولاً

وكانت المجموعة المصرفية والسياسية الحاكمة قد تحوطت للأزمة الوشيكة، فبدأت بتحويل أموالها إلى الخارج من دون إبلاغ المودعين بالأخطار الآتية، بل عمدت إلى الاستمرار في التمويه من خلال بيانات مالية أعدها مصرف لبنان بأساليب محاسبية مشوهة وغير معتمدة من قبل المصارف المركزية الأخرى، من دون أي اعتراض من مفوضي المراقبة.

وعند وقوع الكارثة، بادرت المصارف إلى ممارسة سياسات استنسابية مفضوحة، إذ سمحت فقط لكبار مساهميها وأعضاء مجالس إدارتها ومديريها، وللعديد من السياسيين والنافذين، بتحويل أموالهم إلى الخارج، مما أدى إلى تفاقم النقص في السيولة، أمام صمت مشبوه من مصرف لبنان.

أسس الإدعاء

الأفعال التي شكلت أساساً للادعاء، كانت ارتكاب «جماعة الأشرار» الغش والخداع والاحتيال والمساعدة والتحريض عليه ومخالفة القانون وقواعد المنافسة وتحقيق إثراء غير مشروع وتبييض أموال، خصوصاً الأموال التي حوّلها النافذون إلى الخارج، والإهمال والإخلال بالتعهدات وإلحاق الضرر الذي يستوجب التعويض عنه بثلاثة أضعاف قيمة كل وديعة، إضافة إلى تكلفة الدعوى، بما في ذلك أتعاب المحاماة.

أما المدعون، فحُدّدوا بالأشخاص المقيمين في الولايات المتحدة الذين لديهم أرصدة بتاريخ الأول من أغسطس/آب 2019، لدى أحد المصارف المدعى عليها. وقد عزز تجمعهم الادعاء، خصوصاً أنه من غير المرجح أن يكون أي واحد منهم قادراً بمفرده على الحصول على تعويض مجز عن ارتكابات المتهمين بتكلفة أقل.

وقامت أسس الادعاء على قانون المنظمات الفاسدة والمتأثرة بالابتزاز (RICO) الذي أقره الكونغرس عام 1970 لمكافحة الجريمة المنظمة، أكانت كياناً قانونياً أم مجموعة أشخاص. ولا يتضمن هذا القانون أحكاماً صريحة تجيز تجاوزه الحدود الإقليمية للولايات المتحدة، ومع ذلك، تم الاستناد إليه في قضايا عدة ذات صلة بالولاية القضائية، من خلال روابط عدة، كالإقامة في الولايات المتحدة أو مدفوعات غير مشروعة عبر حسابات أميركية، وحتى من خلال عملة الدولار. ومن أهم القضايا التي تأسست عليه، قضية «فيفا غيت» (FifaGate)، مع أن مقر المنظمة المعنية باستضافة بطولات كأس العالم في سويسرا، وليس للولايات المتحدة صلة مكانية بالموضوع، كما لم يكن من بين الأشخاص الذين ثبت ضلوعهم بالفساد إلا أميركي واحد.

كان في الإمكان التحوط أكثر من خطر عدم قبول هذا الإدعاء بتدعيمه من خلال إسناده أيضاً إلى قانون الممارسات الأجنبية الفاسدة (FCPA) الذي يسمح بتجاوز رابط الاقليمية، اذ أكدت محكمة أميركية هذا الأمر في إحدى القضايا على أساس البعد العالمي لشبكة الإنترنت، كما أصدرت محاكم أخرى، بالاستناد إلى هذا القانون، أحكاماً ضد شركات غير أميركية هي «ألكاتيل-لوسنت» و»ألستوم» و»تكنيب» و»توتال».

… وبشهادة رئيس مجلس النواب اللبناني

ومن حسنات هذا الاقتراح، أن إثبات الارتكابات بمقتضى قانون «FCPA»، أوضح وأصلب، نظراً الى عمليات الفساد التي قام بها مصرف لبنان والمصارف، بتمويلهما القطاع العام بشكل مخالف للقانون ولضوابط العمل المصرفي. وهو أمر أكده القضاء الاداري اللبناني، وكان رئيس مجلس النواب أقر علناً بأن الدولة هي «الفاسد الأكبر»، كما طالب الرئيس السابق لجمعية مصارف لبنان فرنسوا باسيل، ومن دون نتيجة، بضرورة توقف المصارف عن تمويل فساد القطاع العام، كما فرضت الإدارة الأميركية عقوبات على الحاكم سلامة بسبب فساده.

كذلك، يفيد الإسناد إلى قانون الممارسات الأجنبية الفاسدة «FCPA» في تجاوز أي دفاع قد يدلي به وكيل المدعى عليهم ويتعلق بالحصانة التي تتمتع بها أصول وموجودات مصرف لبنان في المصارف الأميركية سنداً لقانون الحصانات القضائية للدول الأجنبية، إذ إن الرد على ذلك سيكون بأن الأخيرة مكونة بشكل أساسي من توظيفات بالعملات الأجنبية ألزمت المصارف تكوينها من أموال المودعين لدى مصرف لبنان بدون مسوغ شرعي، مما يجعل المودعين، أيّاً كانت جنسياتهم، اصحاب صفة ومصلحة مباشرة في أي ادعاء لاستعادة حقوقهم، علماً بأن مفوضي المراقبة المدعى عليهم، وهم من الجنسية الأميركية، كان يفترض بهم أن يركزوا على الارتكابات الفاسدة المذكورة في تقاريرهم، لكنهم تخلفوا عن ذلك، وجاراهم في الأمر ممثلو صندوق النقد الدولي، إن في تقاريرهم عن المادة الرابعة من اتفاقية الصندوق، أو في تقاريرهم لتقييم الوضع المالي للبنان.

أخيراً، سيفيد الاستناد إلى قانون «FCPA» بتجاوز ضعف ركيزة الادعاء على إغراء المصارف اللبنانية المودعين في الولايات المتحدة بمعدلات فوائد أعلى من تلك المتعامل بها في الولايات المتحدة، إذ ان المعدلات الأخيرة كانت استمراراً لسياسات اعتمدت للخروج من أزمة الرهونات العقارية التي لم تصل تردداتها الى دول الشرق الأوسط، حيث ظلت تتعامل بمعدلات فوائد أعلى، ومماثلة، كمصر ولبنان وتركيا، باستثناء المعدلات التي روج لها في لبنان بمقتضى الهندسات المالية التي اعتمدت بدءاً من عام 2016 وكانت مرتفعة الى درجة تلفت المتمول العادي الى ضرورة تجنبها.

مصدرنداء الوطن - توفيق شمبور
المادة السابقةعدد المصارف سيتقلّص حتماً… كيف ولماذا؟
المقالة القادمة«إنفيديا» تطرح منصة شرائح الذكاء الاصطناعي من الجيل التالي في 2026