الفلسفة “اللبنانوية” في تدمير الانتاج الوطني: كل فرنجي برنجي

عامر ملاعب

“اشتدي ازمة تنفرجي” الا في لبنان، ثمة كيان ولاّد للأزمات والمصائب، لا تتوقف واحدة لتنطلق أخرى، فهل ثمة سر يكمن في ذلك؟

عودٌ على بدء، نحن في زمن الانهيار الاقتصادي وانتشار جائحة كورونا، او بمعنى ادق نحن في زمن انفجار فقاعة الكذب التي سادت منذ ثلاثة عقود، وها هي الانهيارات تتوالى وتتسارع وتكبر ونحن في لحظة السقوط ولم نرتطم بالقعر حتى الآن.

على خطٍ موازٍ تشهد الأرياف اللبنانية هبّة غير مسبوقة باتجاه الاهتمام بالزراعة. وزائر الحقول والاودية هذه الايام يلاحظ زحمة رواد و”فلاحين جدد” لم نر مثلها منذ عقودٍ طويلة، بالاضافة لتسارع وتيرة الدعوات السياسية لانتهاج خيارات اقتصادية جديدة على رأس اولوياتها تعزيز قطاعي الزراعة والصناعة.

فهل هي ردة فعل على صدمة انهيار ام موضة سريعة وتمر؟ وهل تستمر هذه الموجة ام تنته عند اول انفراج اقتصادي ما؟ وهل انتهت سياسة ضرب الزراعة وجاء زمن تربعها على سلم الاولويات الرسمية للحكومات العتيدة؟ وهل نحن امام أفول الشيحية” (نسبة للاقتصادي والسياسي اللبناني الراحل ميشال شيحا 1891 – 1954)؟.

تاريخية الأزمة

ربما من المبكر التحدث عن نتائج صدمة الانهيار الآن وتفاعلاته، ولكن العد التراكمي لهذه الأزمة لم يبدأ اليوم، وثمة أسئلة لا أجوبة عليها حالياً ولكن لا بد منها مع التحولات المحلية والدولية المتسارعة بفعل زلازل تضرب المعمورة من مشرقها الى مغربها، لكن لا بد من العودة الى تاريخ لبنان الحديث في نظرته للإستقلال الاقتصادي والانتاج الوطني وتحسين ظروف عيش المواطنين برؤية حقيقية.

ويبدو لبنان مثال ساطع للكيان المطلوب في سياسة الهيمنة الدولية، وهو عبارة عن فضاء مفتوح، مشلع الأبواب، يدمر الصناعة والزراعة الوطنية على حساب الاستيراد من الخارج، دون الحد الادنى من الحمائية. هو نموذج للبلد الخاضع بشكلٍ كامل لإرادة وإدارة الخارج وكيفية تحريك “الدمى” الوطنية بما يخدم المركز الرأسمالي، ويتم ذلك إما مباشرةً او عبر وكلاء الداخل.

وتغيب عن أدبيات منظري “اللببنة الشيحية” شعارات “الأمن الغذائي”، “الاستقلال الاقتصادي” وغيرها بشكلٍ متعمد، لتحضر التهديدات الدائمة والتخويف بشبح المجاعات والعوز، والهرولة دوماً لإسترضاء دول الخارج ومؤسساته من البنك الدولي وارباب الرأسمال العالمي وكل قوة مهيمنة.

حدد “الآباء المؤسسون” لفلسفة وجود الكيان، وعلى رأسهم “المنظرْ” ميشال شيحا، مجموعة ثوابت لا جدال فيها من أجل بقاءه وسيرورة حياته اليومية واستراتيجية ديمومته ووظيفته في الداخل والاقليم، وعلى رأسها أن وظيفة لبنان خدمية فقط لاغير، من خلال المصارف والترفيه والترانزيت واللبناني الوسيط وحلقة وصل بين الشرق والغرب… باختصار لا داعٍ لتعب القلب والنفس في تعزيز الانتاج الوطني على أنواعه، ولتتفرغ العضلات المفتولة لحراسة الكازينو وعلب الليل وبيوت التحاويل المالية ونقل البضائع من المرفأ الى المستهلك في الداخل ومنها الى دول الجوار بدلاً من استخدامها في نكش الحقول أو التصنيع.

كيف تمت آلية التنميط؟

في سبيل تطبيق أفكار اللبننة الحديثة كان لا بد من استحضار كافة الادوات التي تخدم الفكرة، فلم يبق من التاريخ القديم سوى ريادة الفنيقيين بالتجارة، وإغفال الاضاءة على تقدم الكنعانيين مثلاً بابتكار طرق وانواع الزراعة والتي ما زالت تُستخدم حتى اليوم. ادبيات هؤلاء تنتقِ من عهود الامارة المتعاقبة في الجبل والأطراف مرحلة الامير فخر الدين المعني الثاني كمادة للتفاخر بفتحه علاقات مع توسكانا (الغرب) وتغيّب أن جبل لبنان كان المنتج الاول لصناعة الحرير ويملأ السلة الغذائية لمواطنيه دون الحاجة للاستيراد بما فيها مادة القمح في حقب متعددة (بغض النظر عن صحة تلك المرويات التاريخية وثمة دراسات مستحدثة عن بطلان العديد منها).

“نَظْرّت” لأهمية الحاق الاطراف بجبل لبنان في اعلان الـ 1920 كبادرة انقاذ لها من براثن “ظلم الشرق” وتناست أن سهل البقاع قد شكل إهراءات روما يوماً وان طرابلس والشمال كانت بوابة دمشق ومتنفسها في حقب تاريخية طويلة. جاء احتلال فلسطين ليقطع صلة الرحم بين مزارعي الجنوب وسهول شمال فلسطين وكرومها وحمضياتها.

بعد الاستقلال جاء دور تدمير ما تبقى من الزراعة خدمةً لأهل التجارة، وعملت المنظومة على تشجيع الخصخصة والتخصص، مثلاً أُدخلت زراعة الحشيشة والمخدرات لتقضي على الزراعات التقليدية في البقاع الشمالي، او زراعة الشمندر السكري في الأوسط، وعملت على تشجيع زراعة التفاح فقط في الجبل وزراعة التبغ في الجنوب والحمضيات على الساحل، وتحولت ضفاف الأنهار الى مطاعم ومقاهٍ تسهم في تلويث وتدمير المناطق الخلابة….

هذه التخصصية دمرت تنوع الزراعة وأنهت السلة الغذائية المتكاملة وربطت المزارع بسوق لا يستطيع مجابهته او “المونة” عليه، وبالتالي بعدما تراجعت هذه المنتجات وقع المزارعون في أزمة “هوية انتاجية” فتركوا قراهم وتوجهوا ناحية ضواحي العاصمة، وهناك للحكاية تفاصيل أخرى.

صورة المزارع في الاعلام “الشيحي”

ما يلفت الانتباه جداً هو تنميط صورة المزارع في اعلام “الاقتصاد الحر اللبناني” وتوحيد النموذج، فالمناطق الزراعية اللبنانية هي بؤرة تخلف، رجعية، فقر، اضطهاد للمرأة، ظلم بحق الطفولة، جرائم شرف، بيئة خصبة لانتشار الامراض والأوبئة، خروج عن سلطة الدولة الرسمية، غياب المدارس والتعليم، مصدر قلق لسلطات العاصمة، بيئة حاضنة للقوى الاقليمية او للمنظمات العسكرية، مناطق تهريب وفرار للمطلوبين…. .
أما المزارع فهو الانسان “القادم من الجرد”، نموذج الرجل الستيني يعتمر القبعة او اللبادة مع شاربين كثين، ينبهر “بالمدينة”، يتحدث بنزق ويتصرف بغباء، وتتعمد البرامج الفكاهية تقديمه بالصورة النمطية هذه على أنه الرجل القديم في عصرنا، عديم الفائدة ولكن من صفاتنا الانسانية “الفذة” أننا نبقيه على قيد الحياة لا بل نحاول ان نساعده.

في صورة أخرى كمثال أشد وقعاً وفتكاً في تدمير الزراعة، تعرض وسائل الاعلام اعلاناً لاحدى الشركات الأجنبية لبيع المعلبات الجاهزة، والمشهد يصور وصول المزارع التقليدي ذي القبعة والشاربين الى “سوبرماركت” في ضواحي المدينة محملاً شاحنته بصناديق منتجاته الزراعية الطازجة ويبادلها ببضعة عبوات من هذه المعلبات الأجنبية ويخرج فرحاً كالأطفال، كأنه سيناريو يحاكي قصة “سام والفاصوليا” عند الاطفال. فأي قوانين هذه التي يجب ان تحمي الاقتصاد الوطني؟ وكيف تسمح الرقابة بمثل هذه “الجريمة” الوطنية؟.

خلاصة

من حيث المبدأ، عملت فلسفة الآباء المؤسسين على تنميط النظرة باتجاه “المُنتج” و”المنتَج” الوطني على أنه الاسوأ والأدنى وكل “فرنجي برنجي”، وجعلت المزارع والزراعة في مستوى الأدنى اجتماعياً واقتصادياً ومنعت تطوره وتطور العاملين فيه. وهمشت الريف الى درجة التجويع والاذلال، على حساب صورة المدينة المتلألئة بالأنوار، وسنت القوانين المجحفة بحق القطاع الاساسي في البلاد وفتحت الأجواء والأسواق امام الأجنبي في منافسة غير متناسبة مع قدراته المحلية على المواجهة.

وفي ظل الأزمات المتلاحقة التي تعصف بلبنان والمنطقة على كافة الصعد، تبقى الزراعة مادة صلبة للبناء عليها، فهل يمكن المواجهة عبر طرح بدائل ممكنة وعقلانية؟ وهل يمكن اعادة الاعتبار لعناوين سابقة من قبيل الاستقلال الاقتصادي، خطر الرأسمالية المتوحشة، الانتاج الوطني، الاكتفاء الذاتي؟ مزارع مكفي سلطانٌ مخفي، وهل تكون الزراعة بديل حقيقي وواقعي ينقذ ما يمكن انقاذه؟.
ننتظر لنر.

المصدر: وكالة أنباء آسيا

المادة السابقةالصراع على سوق الإنترنت
المقالة القادمةروسيا والصين… نحو تعاون استراتيجي