لطالما نُسبت إلى الإمبراطور الفرنسي الشهير نابليون بونابرت العبارة المعروفة: “على الدستور أن يكون قصيرًا ومبهمًا”، تعبيرًا عن رغبته بتقليص قيود التشريعات والقانون الدستوري قدر الإمكان، لتعزيز سلطته الإمبراطوريّة. وسواء قال نابليون هذه العبارة بحرفيّتها أو لم يفعل، ظلّت هذه الكلمات ملتصقة بالذاكرة الجماعيّة الأوروبيّة، تمثيلًا لرغبة الحكّام الدائمة بالتملّص من النصوص والتشريعات قدر الإمكان. بل وبميلهم لتحجيمها، وتحجيم من يصدرها، عندما تسمح الفرصة. ومن هنا مثلاً تنشأ فكرة فصل الصلاحيّات، وحساسيّة استقلاليّة السلطة التشريعيّة، لتبقى سيفًا مصلتًا فوق رأس الحكومات، وليبقى النصّ التشريعي الدقيق –لا المبهم والقصير- قيدًا يلجم يدي الحاكم.
لكن إذا كانت الدساتير قد حصّنت المشرّع من عبث السلطة الحاكمة، فما العمل حين يتسلّط أباطرة السلطة التشريعيّة، على المشرّعين، لتسخيف وتهميش أدوارهم؟ بل ما العمل حين يكون كل ما يتم التصويت عليه داخل المجلس مبهمًا وغامضًا وملتبسًا، على النحو الذي تخيله نابليون في حديثه عن القوانين الدستوريّة؟ ما العمل إذا تحوّلت جلسات الهيئة العامّة للمجلس إلى سيرك شكلي، ليتم التفاوض على مقررات الجلسة بعد انتهائها؟ إذا فسدت السلطة، فالنائب يحاسب، لكن من يصلح المِلح إذا فسَد؟ قصّة موازنة 2024، كانت أفضل تعبير عن الحالة المأساويّة التي وصلت إليها آليّات التشريع في لبنان، في بلد يفترض أن يكون قد اعتمد نظامًا برلمانيًا، تُشتق فيه مشروعيّة كل السلطات من التمثيل النيابي حصرًا.
إفساد الضريبة على صيرفة وأرباح الدعم
نعود بالزمن أسبوعين إلى الوراء، لحظة التصويت على الصيغة النهائيّة للموازنة.
يطرح النائب حسن فضل الله إعادة تضمين الموازنة الضريبة على المنتفعين من منصّة صيرفة، بعدما أزالت لجنة المال والموازنة هذا البند من مشروع قانون الموازنة. يُحرج كنعان، فيبرّر اعتراض لجنته على البند بتسمية “ضريبة”، إذ لا يمكن تشريع ضرائب بمفعول رجعي.
تسود فوضى. يتدخّل عدوان مقترحًا توصيف ما سيفرض بغرامة على المضاربة. يُحرج كنعان، إزاء تدخّل عدوان، فيبلع الموس ويوافق. لم يعد هناك مشكلة، طالما تسمية ضريبة رُفعت من البند. ألم يخطر ببال كنعان أو لجنته إقتراح مبدأ التغريم، بدل الضريبة؟ هل اكتشف كنعان داخل الجلسة فكرة التغريم؟
ثم يستذكر أحدهم سائلًا: هل كان هناك مخالفة حتّى يتم فرض غرامة؟ ألا يعني ذلك تجريم أفعال معيّنة، بمفعول رجعي؟ ثم تسود الفوضى والضياع مرّة ثانية. وكأن الموازنة لم تُناقش في لجنة المال والموازنة، أو كأن النوّاب لم يتطرّقوا إلى كل هذه الإشكاليّات سابقًا.
ثم تخرج الأرانب من تحت القبعات في اللحظات الأخيرة من الجلسة. يطرح رئيس المجلس وسط الفوضى العارمة مقترح ما من النائب حسن فضل الله، ثم يُعلن فورًا سقوط المقترح، من دون أن يتضح ما الذي تم اقتراحه أو ما الذي تم إسقاطه، أو من أسقطه حتّى.
ثم يُطرح المقترح بصيغة ما أخرى، ثم يطرق برّي على الطاولة، فيمر المقترح، “صُدّق!”. لا يفهم أحد ما الذي جرى. خلال الفوضى نفسها، يطرح النائب أبو فاعور صيغة ما متعلّقة بالمستفيدين من الدعم، فيعترض علي حسن خليل، من دون يدرك أغلب الحاضرين مضمون ما تم اقتراحه. ثم يُعاد طرح المقترح بشكل مختلف، يوافق خليل، فيعلن برّي: “صُدّق!”. ما الذي صدّق؟ لم يفهم أحد.
خرج الجميع من الجلسة من دون أن يعرفوا: هل صوّتنا على غرامة أو ضريبة؟ هل ستُفرض النسبة على حجم العمليّات أو على الأرباح الصافية؟ هل ستُفرض النسبة بالشكل نفسه على أموال الدعم وعمليّات بيع الدولار عبر المنصّة؟ كيف سيتم احتساب الأرباح، إذا كانت الضريبة على الأرباح؟ على ماذا صوّت نوّاب الأمّة؟
على أي حال، سيكتشف اللبنانيون أنّ هناك قطبة مخفيّة.
فلو كانت الكتل النيابيّة جادّة بفرض الضريبة على صيرفة وأموال الدعم، كان يكفي أن تستذكر أن قانون ضريبة الدخل يفرض هذه الضريبة على كل إيراد فعلي أو محاسبي، غير ملحوظ بالضرائب المعروفة الأخرى. بمعنى آخر، كان القانون يفرض ضريبة الدخل، بنسبة 17% للشركات وبين 4% و25% للأفراد، على الأرباح المحققة من عمليّات صيرفة، بلا أي تشريع إضافي. وبذلك، كان بإمكان الموازنة أن تنص على تفعيل هذا البند النافذ أصلًا، من قانون ضريبة الدخل، من دون فرض غرامة أو ضريبة جديدة بقانون رجعي، ومن دون ترك ألغام ستسمح بالطعن بالإجراء. وهذا الخيار، كان مطروحاً خلال كل النقاشات السابقة.
لماذا إذًا، لم يتم اللجوء إلى هذا الخيار؟ وما سرّ الفوضى التي حصلت داخل المجلس، وما شهدته من أرانب في اللحظات الأخيرة؟ باختصار، كان الهدف إسقاط وإفساد الضريبة، ولو عبر التحايل بتزوير الموازنة.
التفاوض بعد الجلسة وتزوير إرادة النوّاب
ما إن انتهت الجلسة، حتى اتجهت الشركات المستوردة للمحروقات إلى الإضراب. ثم سارع رئيس الحكومة نجيب ميقاتي إلى تحريك عجلة المفاوضات على كل الجبهات.
باختصار، أبلغ ميقاتي الشركات المعنيّة بهذه الإجراءات بأنّ باب التفاوض لم يُقفل، طالما أن نص الموازنة لم يُكتب بعد، وطالما أن النواب لا يعرفون أصلًا ما تم التصويت عليه. نصوّت في المجلس، ثم نفاوض، لنحدد ما صوّتنا عليه، ثم نكتب قانون الموازنة…هذه هي القاعدة الجديدة.
من رحم هذه المفاوضات، ولد النص الأخير لقانون الموازنة، مخالفًا ما جرت مناقشته داخل القاعة. في النص الأخيرة، عادت صيغة البند لتأتي تحت عنوان الضريبة الاستثنائيّة، بخلاف ما تم الاتفاق عليه أولًا لجهة توصيفها بالغرامة. وهذا التعديل الخبيث، سيكون تمريرة تسمح بإسقاط البند أمام المجلس الدستوري لاحقًا، طالما أنّ فرض الضرائب بمفعول رجعي مسألة غير جائزة.
أمّا “دقائق تطبيق” المادّة، فتم ربطها بقرار سيصدر لاحقًا من جانب وزير الماليّة، وهو ما سيمهّد لتأجيل فرض الضريبة فعليًا، بانتظار صدور نتيجة الطعن. وكما أشرنا سابقًا، كان يمكن تفادي كل هذا اللغط، لو أن النص الأخير للموازنة أشار إلى الضريبة المفروضة بالقانون القائم أصلًا، بدل فرض الضرائب بمفعول رجعي.
ثم سيكتشف النوّاب أنّ الصيغة الأخيرة لنص الموازنة تتحايل على الكثير من المقرّرات الأخرى. إذ تجاهلت الصيغة مثلًا ما تم التصويت عليه لجهة زيادة الضريبة على شركات الأموال من 17% إلى 25%. وهو مقترح أثار وقتها حفيظة النوّاب غادة أيوب وآلان عون ونعمة أفرام وإبراهيم كنعان ومروان حمادة. مع الإشارة إلى أنّ هذه الضريبة تطال بتداعياتها المصارف، وكبار الشركات المستوردة وأصحاب الوكالات الحصريّة، وهو ما يفسّر تكتّل هذه الفئة من النوّاب بالتحديد ضد المقترح.
وكذلك تبيّن أيضًا أنّ نص قانون الموازنة أبقى –وبعكس نتائج التصويت- على المادّة التي تسمح بتأجير أملاك الدولة الخصوصيّة لمدّة 18 سنة متواصلة، منها تسع سنوات كمرحلة أولى قابلة للتجديد مرّة واحدة. مع الإشارة إلى أنّ هذا البند واجه معارضة نيابيّة داخل اجتماع الهيئة العامّة، بالنظر إلى طول مدّة التأجير، وهو ما أفضى إلى تعديله لتصبح المدّة أربع سنوات قابلة للتجديد. ومن المهم التنويه أيضًا إلى أنّ مناقشة هذه المادّة حصلت خلال فوضى كبيرة، وفي ظل حالة من الهرج والمرج، وهو ما سمح لهيئة المجلس العامّة بالتملّص مما تم الاتفاق عليه في الجلسة.
على هذا النحو، باتت رئاسة المجلس النيابي، والهيئة العامّة للمجلس، تكرّس يومًا بعد يومًا فكرة التلاعب بنتائج الجلسات التشريعيّة. وهو ما حصل أصلًا عند صياغة وإقرار قوانين سابقة، ومنها تعديلات قانون سريّة المصارف. وبهذا الشكل، بات العمل التشريعي مجرّد فلكلور لا يفضي إلا إلى نتائج غامضة ومبهمة، سيتم التفاوض عليها مع أصحاب المصلحة، أو مع اللوبيات المؤثّرة في القرار الرسمي. وبطبيعة الحال، لا يُشبه هذا الواقع فكرة “دولة المؤسسات”، بل يبدو أقرب لكتلة من الجماعات الأهليّة التي تستتر خلف شكليّات دستوريّة.