المجزرة التي يرتكبها جيش الاحتلال الإسرائيلي بحق فرق الإسعاف المدني والقطاع الطبي عموماً في لبنان تتمة حتمية لما شاهده العالم أجمع وسكت عنه في غزة. ولنا في الزميل الجراح غسان أبو ستة خير شاهد ناطق. فقد وجد هذا الوحش نفسه بلا أي ضوابط أخلاقية أو قانونية تمنعه من إظهار طبيعته الحقيقية: المستوطن المحتل، طريد أوروبا، شبيه شقيقته في التكوين تلك القارة خلف الأطلنطي. ولمعرفة ماذا يعني هذا وجب التذكير بعدة وقائع من تلك الحقبة تنطبق كلياً علينا اليوم.
لمشروع الاستيطان الاستعماري شروط للنجاح، أهمها التفوّق العددي الديموغرافي. يتحقق هذا عبر زيادة عدد المهاجرين للاستيطان يقابله تخفيف عدد أهل الأرض الأصليين. فشلت هذه المعادلة في جنوب أفريقيا والجزائر، لذا رحلوا وأُسقط نظام الفصل العنصري. في المقابل، نجح الاستعمار في أوروبا خلف الأطلنطي لأنهم زادوا المهاجرين وأمعنوا قتلاً بالسكان الأصليين. يُذكر أن الجنرال أمهرست قدّم لسكان أميركا الأصليين بطانيات «مفخّخة» بفيروس مرض الجدري، ما أدى إلى إزهاق أرواح كثيرين. في رسالة إلى العقيد هنري بوكيه بتاريخ 7 تموز 1763، كتب أمهرست «ألم يكن من الممكن أن يتم إرسال الجدري بين قبائل الهنود الساخطين؟»، وفي رسالة لاحقة إلى بوكيه، كرّر أمهرست الفكرة: «سيكون من الجيد أن تحاول تطعيم الهنود عن طريق البطانيات، وكذلك تجربة كل طريقة أخرى يمكن أن تساعد في استئصال هذا العرق المقيت». وكذا فعلوا بلبنان، حين فخّخوا جهاز النداء (البيجر) الجهاز الأكثر استعمالاً من قبل الأجهزة الطبية والإسعاف، ثم أكملوا بقتل وقصف الإسعاف والمسعفين في الجنوب وبيروت. وذلك كله لجعل كل جريح يسقط في مهداف الموت. إنهم يسعون لتخفيف أعدادنا: إنها الإبادة بقصد استئصال عرقنا.
من المهم هنا فهم أن ما يجري هو ترجمة حرفية لمعنى قول العدو إنه يخوض حرباً وجودية. ذلك أن هذا العدو يزول نظامه السياسي إما بالهجرة العكسية أو بفقدان الدور المنوط به من قبل الغرب الجماعي. ولكي نتبصّر جميعاً، كلا الأمرين تحقّقا على مدى ١١ شهراً في شمال فلسطين، فهنالك في هضاب الجليل:
أولاً: تمّ إجلاء المستوطنين، وبعدها أعلنوا عدم الرغبة بالعودة دون شرط تحقيق الأمن المطلق أي وضع حرس لهم منا نحن لنحميهم!
ثانياً: تمّ تصغير آلة القتل وتصوير كيف يطاردون عاجزين عن وقف الإسناد لغزة. و بالعودة إلى خطاب نتنياهو في الكنيست بعد حرب تموز ٢٠٠٦ حين توجّه إلى الجميع قائلاً ما مضمونه: «إن الهزيمة تحوّل إسرائيل من رصيد لحلفائها إلى عبء. أي إن الهزيمة تفقد نظام الفصل العنصري الدور المنوط به وبالتالي يفقد التمويل والدعم»! لذا، لكي نصارح أهلنا وليدركوا أي «جرم» يعاقبون عليه: لقد تظهّر عبر جنوب لبنان بصورة رمزية مصغّرة كلا الشرطين المطلوبين لزوال نظام الفصل العنصري المقيت. وهذا أمر جلل عظيم.
وبناءً على هذا الفهم، السؤال ليس إلى أين، بل السؤال: نكون أو لا نكون. فلسنا نحن من حاكمنا المرابي في تاجر البندقية، ولسنا نحن من اقترضنا لندفع باللحم والدم!
و بالتالي، لعل أروع ما يرسم لنا دورنا نحن في القطاع الطبي سواء في المهجر أو الوطن، خاصة الذين تمت محاولة إخراجهم من الخدمة في المناطق المدمرّة، قوله تعالى: قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِّلْمُجْرِمِينَ.
أيها الزملاء، يعز عليّ كتابة هذا وأنا لست بينكم، فمنكم نتعلّم واجباتنا:
– الصبر الجميل في هذه المحنة الكبيرة.
– الانخراط الكامل في مساعدة أهلنا النازحين. ومن يسأل في المهجر كيف السبيل، أدعوه لكي نتعلّم من تجارب الآخرين، وفي عالم اليوم لنا في تجربتي كورونا و أوكرانيا أمثولة كيف أن الأطباء انتقلوا إلى إجراء المعاينات عن بعد عبر الفيديو، وبذلك نكون ظهيراً لأهلنا ومعيناً. ومن المفيد التذكير بأن منا من نزح إلى الخارج وهؤلاء أغلبهم بلا معرفة بسبل النظم الصحية وبلا تأمين صحي حيث هم ومساعدتهم واجبة أيضاً. من المفيد جداً هنا التواصل مع السفارات والقنصليات في بلدان المهجر وتنسيق هذه الجهود لكي يسهل لمن يرغب كيفية الاستدلال. هذا عدا ما يمكن أن نساعد في جمعه من مساعدات على أنواعها، وصولاً إلى إعلاء الصوت عالياً ومراسلة كل الجمعيات والمنتديات الطبية بسؤال لمدّعي حقوق الإنسان: أين أنتم من محرقة الجهاز الطبي؟
الأطباء، أينما كانوا، مُصنّفون من أهل العلم وهم مُقدّرون، ومنا الكثيرون ممن هم في أعلى مراكز التأثير. لذا، اليوم يوم عمل، و لا يهنأ لنا مقام وأهلنا في هذا الحال، ولن نعدم الوسيلة.