هذه الدراسة اعدت لنيل شهادة الماجستير في التسويق من جامعة “لانكستر” البريطانية
مقدمة
– تهتّم هذه الدراسة بتسليط الضوء على موضوع التسويق بشكل عام والتسويق العقاريّ بشكل خاص لّما يحمل هذا الموضوع من إشكاليات ظهرت إبّان الأزمة الاقتصادية التي وصلنا إليها، فلقد تبين لنا أن الاموال المستثمرة في العقارات تحمي المال وجنى العمر بعد حدوث سرقة العصر والعمر والتاريخ التي تعرّض لها المودعون في المصارف اللبنانيّة.
– من هنا جاء هذا البحث على قسمين، في القسم الاول تناولنا موضوع التسويق بشكل عام، أما في القسم الثاني انتقلنا الى موضوع التسويق العقاري بشكل خاص ، والذي شكّل المحور الأساسي لهذا البحث.
التسويق العقاري في لبنان:
التسويق العقاري ركيزة أساسية في الإقتصاد اللبناني. فلقد برهنَ القطاع العقاري في لبنان أهميته فتأكد لنا أنه أهم بكثير من المال المودع في المصارف. وقد تبيّنَ للجميع أن الأموال المستثمرة في العقارات تحمي المال بعد سرقة العصر(Ponzi Scheme ) وعملية النهب التي تعرّضَ لها المودعون من المصارف اللبنانية وشركائهم.
يشكّل قطاع العقارات ركيزة أساسية في الإقتصاد اللبناني نظراً لموقع لبنان الاستراتيجي، وطبيعته الجميلة، والتنوع الثقافي الذي يجذب المُستثمرين والمُشترين من داخل لبنان وخارجه.
مر الاقتصاد اللبناني بتقلّبات عدة خلال العقود الثلاثة الماضية ما انعكس بالتأكيد على السوق العقاري. ان تقلبات العملة وارتفاع معدل التضخم والتراجع في قيمة العقارات اثر بشكل كبير على قيمة العقارات.
في الثلاثين سنة الماضية شهد التسويق العقاري في لبنان تطوراتٍ كبيرة فأصبحت العقارات مركز اهتمام العديد من المستثمرين المحليين والاجانب. وقد شهد السوق العقاري في لبنان تطوراتٍ متعددة تأثرت بعوامل محلية وإقليمية ودولية. يمكن تقسيم هذه الفترة الى عدة مراحل.
– المرحلة الأولى:
مرحلة إعادة البناء بين العام ١٩٩٤ الى وحتى العام ٢٠٠٥.
بعد إنتهاء الحرب الأهلية واتفاق الطائف شهدَ لبنان فترةً من الإعمار حيث تمَّ التركيز على إعادة بناء البنى التحتية والمناطق المدمّرة.
– المرحلة الثانية:
فترة الإزدهار والنمو بين العام ٢٠٠٦ والعام ٢٠١٠
شهدت هذه الفترة نمواً إقتصادياً كبيراً وتدفّقاتٍ ضخمة خاصة من مستثمرين لبنانيين وخليجيين ما أدى الى ارتفاع في أسعار العقارات والأراضي. خلقت تلك الفترة مخاوف من تضخم في أسعار العقارات. وكان هنالك قلق بشأن التأثير البيئي للتطور العقاري السريع.
إن عملي في هذا المجال ارتبطَ بتقييم وتخمين العقارات من أجل الإضاءة على مواصفاتها بهدف تسويقها، فكانت لي خبرة طويلة في مجال العقارات من خلال عملي كخبير في الشؤون العقارية والتخمين.
– المرحلة الثالثة:
فترة التباطؤ والتحديات بين الأعوام ٢٠١١ و ٢٠١٩
بدأت هذه الفترة بحروبٍ في دول عربية شقيقة وشهدت المنطقة تحدّيات سياسية وأمنية أثَّرَت سلباً على الثقة في السوق العقاري. وهنا واجهَ الإقتصاد اللبناني صعوبات بما في ذلك تباطؤ النمو وتراجع الطلب على العقارات خاصة من المستثمرين الأجانب وأصبحَ الجمود سيد الموقف.
وفي هذه الفترة أتت جائحة كورونا والأزمة المالية التي بدأت في ١٧ تشرين ٢٠١٩ والتي أثّرت تأثيراً كبيراً على المجتمع. في الوقت نفسه، إنهارت القيمة الشرائية للعملة الوطنية وتدهورَ الوضع الإقتصادي بصورة شاملة. نُهِبَت أموال المودعين وامتنعت المصارف عن إعادة الودائع فحصلَ تراجعٌ حاد في الطلب على العقارات بسبب صعوبات في التمويل، بعد أن تمَّ احتجاز الودائع في المصارف فعانى المودعون الأمرّين لعدم تمكّنهم من الحصول على مدخراتهم ما انعكس سلباً على معظم القطاعات وخاصة القطاع العقاري.
فالأزمة المالية والقيود المفروضة على السحب من المصارف كان لها انعكاسٌ كبيرٌ على القدرة في شراء العقارات ما أدى الى تباطؤ في القطاع المذكور.
في العام ٢٠٢١ تابعت عجلة البيوعات العقارية والسكنية منحاها الصعودي لتنحدر بعد ذلك في العام ٢٠٢٢ بسبب تهاوي قيمة الشيك السريع، مواكبةً لانهيار العملة الوطنية أمام الدولار وعدم القبول بها الى حدٍّ ما في عمليات البيع والشراء والإعتماد على الدولار النقدي.
مرَّ لبنان في حالة عدم استقرار سياسي منذ سنة ٢٠١٩ وحتى يومنا هذا. فتوقفت المؤسسة العامة للإسكان عن إعطاء تسليفات لشراء شقق سكنية، ما انعكسَ سلباً على سوق العقارات فتراجعت الثقة وانخفضت الإستثمارات.
في السنتين الأخيرتين جاءت موازنة الدولة مثل الصاعقة على رؤوس المواطنين حيث تمَّت زيادة الضرائب بشكلٍ كبير ما انعكسَ ارتفاعاً في قيمة الضرائب على القطاع العقاري فازدادت بشكلٍ كبير تكاليف نقل الملكية والرسوم المتوجب دفعها للدولة.
التأثيرات الإجتماعية على السوق جاءت من الناس الذين احتُجِزت ودائعهم فلم يعد بإمكانهم دفع ثمن العقار حتى ولو كانت لديهم الرغبة بشرائهِ.
ولقد لاحظتُ من خلال عملي في هذا المجال أن هجرة أكثرية الشباب اللبناني الذين غادروا لبنان بحثاً عن فرصِ عمل وحياةٍ أفضل في الخارج قد أثَّرَ بشكل سلبي على الطلب المحلي على العقارات. فقد تناقصَ عدد الشباب بسبب الهجرة ما أثّرّ على نوعية العقارات المطلوبة من حيث الحجم والمساحة.
الأزمة المالية:
يشهد لبنان أزمة مالية خانقة منذ سنة تشرين الأول ٢٠١٩ ما أدى الى ارتفاع معدلات التضخم وتقليل سيولة النقد في أيدي المواطنين والمغتربين الذين أودعوا أموالاً في المصارف اللبنانية.
إضافةً الى أن لبنان يعاني أيضاً من مشاكل في ما يتعلق بقلة الشفافية وانتشار الفساد ممّا يقلّل من جاذبية البلاد للمستثمرين الأجانب ويقلّل من الثقة في البيئة الإستثمارية.
هناك عدة عوامل يجب أخذها في الإعتبار عند تقييم السوق العقارية:
1- الإستقرار السياسي:
يلعب الإستقرار السياسي دوراً هاماً في جذب الإستثمارات وزيادة الثقة في السوق العقارية والإقتصادية.
2- المشاكل الإجتماعية:
يجب أيضاً مراعاة القضايا الإجتماعية المتعلقة بالتمييز الإقتصادي والوصول إلى السكن وحالة الفقر المنتشرة في المجتمعات، حيث يمكن أن تعكس هذه القضايا التحديات الإقتصادية والإجتماعية الكبرى.
لذلك، يجب أخذ العديد من العوامل في الإعتبار عند تقييم مدى ازدهار الوطن، ولا يمكن الإعتماد بشكل كامل على حالة السوق العقارية وحدها لتحديد حالة الوطن. على الرغم من أن الازدهار في السوق العقارية قد يشير إلى بعض مستويات الإستقرار والنمو الإقتصادي، إلا أنه لا يعكس بشكلٍ دائم أو شامل وضع البلاد بأكمله.
3- دور المسوّق العقاري:
الوسيط العقاري يتوسط بين المالك والمشتري حيث لا تتم صفقة البيع أو الإيجار إلا بوجود هذين الطرفين.
في حين تركّز مهنة التسويق العقاري على عرض وترويج مشاريع عقارية ومنشآت تابعة لمطوّرين ومقاولين، والعمل على إتمام صفقات البيع والإيجار من دون حضور المالك وفق شروط واضحة متفق عليها في العقد.
4- تقييم العقار:
يبحث خبير التخمين العقاري عن مبيعات العقارات التي حدثت مؤخراً في المنطقة المحددة ويقارن بين البيع والشراء للحصول على قيمة سوقية موضوعية، ويقوم بإضافة قيمة أو طرحها حسب وضع العقار.
بالنسبة للشركات العقارية فالتسويق هو جسر التواصل بين الشركة وعملائها. فهي تسعى لفهم احتياجات ورغبات الشاري لتلبيتها عبر الجمع بين المنتج والسعر والترويج.
5- مواصفات المسوّق العقاري:
– لا بد أن يمتلك المسوّق العقاري قاعدة عريضة من العلاقات والمعارف في هذا المجال ليتمكن من مواكبة كل ما هو جديد في عالم العقارات، مما يسمح له بأن يكون على علاقة بقاعدة كبيرة تساعدهُ على التسويق واكتساب المزيد من العملاء فيكون بالتالي مسوّقاً عقارياً ناجحاً.
6- الصبر والذكاء في الإختيار:
في كثير من الأحيان قد لا تحقّق الشركة التي يعمل فيها المسوّق فائدة كبيرة أو صفقه مميزة. فتتم معالجة هذا الأمر بالصبر حتى يستطيع جني الثمار جراء التسويق العقاري الناجح. وكثيرٌ من المسوّقين العقاريين لا يفكرون بالعمل في مجالٍ آخر خاصة وأن التسويق العقاري يحقق أرباحاً جيدة.
7- الثقة والصدق بين المُسوّق والعميل:
الكذب يؤدي الى نفور العملاء. فإذا كذبَ المسوّق اليوم على عميل للحصول على صفقة صغيرة، سوف تضيع عليه كل الفرص الكبيرة لاحقاً. لذلك تُعتبر الثقة من أهم الأمور.
إن الثقة تزيد من قدرة المسوّق على إيصال المعلومات وشرح وجهة نظره بطريقه جيدة تساعد العملاء بالتوجه إليه بعد حصولهم على الخدمات أو الإستشارات أو الإستفسارات قبل اتخاذ قرار الشراء والبيع.
وفي حال شعور العميل بعدم الثقة والأمان فان ذلك ينعكس بشكل سيىء على المسوّق العقاري ولن يستطيع أن يحقق أي نجاح.
من المهم جداً ان يتّصف المسوّق العقاري بإجادة الحديث الذى يُسهم في جذب العملاء، بأن يتمتع بلسان يتّسم بالفصاحة واللباقة في الكلام.
فضلاً عن إقامة شبكة علاقات كبيرة، فهذا يسهّل عليه عمليات البيع والشراء فيما بعد، ويستطيع أن يكون لديه جمهور كبير من حوله من فئات ومناصب مختلفة.
8- الإطلاع على السوق:
لابد من أن يقوم المسوّق بمتابعة كل ما يجرى في السوق بشكل يومي أي أن يكون على اطلاع مستمر يساعده في عمليات التسويق.
مستقبل القطاع العقاري في لبنان:
ننتظرُ جميعاً أن يتم التوافق السياسي في لبنان فيستعيد البلد عافيته مجدداً وتنتعش كافة القطاعات ومن بينها القطاع العقاري. فالقطاع العقاري في غيبوبة تامة وبانتظار إنعاشه بتسوية.
يوم أقفلت المصارف أبوابها وانكفأت خلف الأبواب الموصدة بفعل فقدان السيولة، ومع حملة التشكيك والإتهامات والإعتداءات التي طاولتها، تعالت أصوات عاقلة تطالب وتحذّر من مغبّة سقوط ليس القطاع المصرفي بما هو مؤسسات تجارية ومالية ونقدية فحسب، بل من سقوط أحد أهم وأكبر أبواب وآليات التسليف والتمويل للقطاعات الإقتصادية على اختلافها، والأفراد على تنوّع حاجاتهم بما فيها القروض السكنية، أكثر التسليفات ضرورة.
فغياب التمويل والتسليف عن الأسواق والدور المحوري الذي تؤديه القروض التجارية والشخصية في صناعة نشاط إقتصادي أثّرَ بشكلٍ كبير على النمو الوطني.
وفي الختام يتبيَّنَ لي بعد كافة التجارب والتقلبات السياسية والإقتصادية والأزمة المالية التي أصابت القطاع المصرفي في لبنان أن العقار هو أهم من الإدخار في المصارف. فهو الأساس وهو الضمانة، وهو الثروة. تبقى العقارات وسيلة ممتازة لتجنّب التضخم وتقوم بحماية الأصول المالية. كما أن توقيت الإستثمار يلعب دوراً مهماً في هذا المجال.
(ومن منطلق كوني من عائلة كانت من كبار الملاكين في بيروت، عاشت مأساة الحرب التي عصفت بكل شيء، وجرفت معها الكثير مما كان لنا المادي والمعنوي واصابتنا بجراحٍ كبيرة، ما اضطرنا مكرهين على بيع أملاكنا باسعار بخسة، فخسرنا تلك الاملاك التي كانت هي الضمانة لنا ولمستقبل اولادنا، وهكذا فقدنا كل شيء، الا عزتنا وكرامتنا).
كلنا أمل بعودة الأمور الى طبيعتها في وطننا الحبيب والجريح لبنان وحدوث معجزة أو تسويةٍ ما تنتشلهُ من أزماته المتعددة فينفرج الوضع مجدداً على كافة الأصعدة وتعاد الاموال المنهوبة الى اصحابها وينهض الإقتصاد الوطني.
لقد عاشَ لبنان في السابق حقبةً مُشرقة وكان الجميع يتغنّى ويقول: “نيّال مَن لديه مرقد عنزة في جبل لبنان”.
واكثر من ذلك ايضاً نقول:إن لم تبقَ لكَ أرض، فلن يبقى لكَ وطن.