في كلام جميع المسؤولين السوريين، وخصوصًا أولئك المؤثّرين على المشهد الاقتصادي في البلاد، يمكن تلمّس التشخيص ذاته. لقد حُكمت سوريا لعقود، في حقبة الأسد الأب، بمنطق الاقتصاد الاشتراكي الموجّه. أي الدولة المركزيّة المهيمنة على عجلة الإنتاج والتوزيع. ولم تخرج من هذه الحقبة، في مطلع هذا القرن، إلّا لتدخل في منطق اقتصاد الأوليغارشية. أي اقتصاد القلّة المسيطرة، المحيطة بمركز الحُكم، التي تناهشت خيرات مرحلة “الانفتاح” المزعوم. أو بعبارة أخرى، احتلّت هذه النخبة الماليّة القطاعات الاقتصاديّة، في المساحة التي انسحبت منها الدولة، في عمليّة توزيع غنائميّة منظمة وممنهجة. هذا ما يحصده المجتمع حين يتم مزج اقتصاد السوق، ببيئة سياسيّة سلطويّة. أو حين لا يترافق “الانفتاح” الاقتصادي مع بديهيّات المفاهيم المؤسّسة لدولة القانون.
في كلام المسؤولين السوريين اليوم، الكثير مما يوحي بالارتداد عن الصيغة التي حكمت المرحلتين السابقتين، ولو لم نتلمّس بعد الترجمة العمليّة لتلك التصريحات. يمكن للمتابع بسهولة أن يلحظ تكرار العبارات نفسها اليوم: الاقتصاد المفتوح، اقتصاد السوق، فتح الأبواب أمام الاستثمار الأجنبي، انسحاب الدولة من عدد من القطاعات الاقتصاديّة، وغيرها من العناوين التي تذهب بالاتجاه نفسه. لسبب ما، ربّما سياسي، لا تُقال العبارة في تلك التصريحات. نحن نتحدّث عن اقتصاد “أكثر ليبراليّة”، وعن دولة أصغر وأقل هيمنة في السوق. قد لا يعني ذلك انسحاب الدولة من مهامها التنظيميّة، أو عن أدوارها في مجال الرعاية الاجتماعيّة. لكنّنا نتحدّث –في تلك التصريحات على الأقل- عن بيئة أكثر مرونة في التعامل مع القطاع الخاص.
مستقبل القطاع المالي السوري
يتّسع مفهوم القطاع المالي في أي دولة، ليشمل المصارف وشركات التأمين والشركات الاستثماريّة والبورصات وغيرها من المؤسّسات المعنيّة بتقديم الخدمات الماليّة. في سوريا بالتحديد، وتمامًا كما هو حال لبنان اليوم، يحتلّ القطاعان المصرفي والتأميني موقعًا محوريًا في هذا القطاع، لضعف أو شح الرساميل الموجّهة إلى سائر أنواع المؤسّسات الماليّة. وفي حالة سوريا، لم تكن البيئة السياسيّة أو الاستثماريّة -طوال العقود الماضية- ملائمة لنمو أنواع أخرى من المؤسّسات الماليّة.
من الناحية النظريّة، يُفترض أن تكون التحوّلات المستجدة، والنهج الاقتصادي الجديد (إذا صدقت التصريحات)، عامل إنعاش للقطاع المالي السوري في المستقبل، بما في ذلك القطاع المصرفي. فالقطاع المالي يعتاش أساسًا على حريّة حركة الرساميل، التي تتيح تكوين الاحتياطات بالعملات الأجنبيّة، وتفتح باب الخدمات الماليّة والمصرفيّة على مصراعيها. لا يمكن تصوّر قطاع مالي مزدهر وفعًال، من دون الحد الأدنى من الانفتاح الاقتصادي، الذي تعد به أصلًا التصريحات التي يطلقها المسؤولون عن النظام الجديد في دمشق. ومن الناحية النظريّة أيضًا، ثمّة ما يتلاءم مع هذا المشهد المتفائل: تدفّق أموال إعادة الإعمار، وفتح الأبواب امام الاستثمار الأجنبي في القطاعات المتهالكة حاليًا، وانفتاح العديد من الأطراف الإقليميّة على النظام الجديد.
في كلام حاكمة المصرف المركزي السوري ميساء صابرين ما يعد أيضًا بتحوّلات في طريقة إدارة النظام المالي. كثير من الكلام عن تعزيز استقلاليّة المصرف المركزي، وإعطاء المصرف هامشًا أوسع في اتخاذ القرارات المتصلة بالسياسة النقديّة، بل وثمّة كلام أكثر جرأة عن إعداد إصلاحات تشريعيّة متصلة بعمل المصرف وصلاحيّاته. ما تقوله صابرين هنا، يعيدنا إلى نفس المشهد الذي ترسمه سائر تصريحات المسؤولين السوريين: المزيد من الهامش الممنوح للقطاع المالي، الذي يمثّل المصرف المركزي ركيزته الأولى في دولة مثل سوريا. والمزيد من انكفاء السلطة السياسيّة عن التدخّل في عمل هذه الأسواق. “فصل السياسة النقديّة عن التدخّلات الحكوميّة المباشرة”، كانت عبارة واضحة في تصريحات صابرين لوكالة رويترز.
لا حاجة للقول إنّ في كلام صابرين “انقلابًا” على المفاهيم التي حكمت عمل المصرف المركزي في زمن حزب البعث. لقد أقرّت سوريا عام 2001 قانونًا لإنشاء المصارف التجاريّة الخاصّة، بعدما كان القطاع العام المهيمن الوحيد على القطاع المصرفي السوري. وفتحت المجال أمام تأسيس 14 مصرفًا سوريًا خاصًّا منذ ذلك الوقت، منها 7 مصارف تأسست بمساهمات لبنانيّة. غير أنّ القطاع ظلّ خاضعًا طوال تلك الفترة لابتزاز أزلام النظام، الذي دخلوا مباشرةً أو مواربة برساميل تلك المصارف، ونهشوا من خيرات نموّها. لم يكن القطاع “حرًّا”، تمامًا كما لم يكن الاقتصاد السوري “حرًا” أو “منفتحًا”، وفق العناوين السابقة التي صاحبت وصول الأسد الإبن إلى السلطة. مجددًا: هكذا يكون “الانفتاح” الاقتصادي من دون “دولة القانون”.
تحديات السياسة والمستقبل الغامض
غير أنّ التفاؤل بالعناوين والتصريحات، تقابله كتلة من التحديات التي تنبع تحديدًا من الواقع السياسي، وعدم اليقين الذي يخيّم حول مستقبل الوضع السوري. وكي لا ننسى مجددًا، لقد جاءت مرحلة الأوليغارشية السوريّة، منذ مطلع هذا القرن، تحت عناوين مشابهة تحدّثت عن التجديد والانفتاح والإصلاح. ولم تكن انتكاسة هذا التحوّل إلا بفضل المتغيّرات السياسيّة، التي طبعت لاحقًا السياسة الاقتصاديّة بصورة مختلفة تمامًا عن العناوين التي يجري الترويج لها.
فعلى سبيل المثال، وقبل أن تتحدّث صابرين عن تعديلات تشريعيّة، ثمّة أسئلة عديدة حول الجهة التي ستملك حق إجراء هذه التعديلات، خصوصًا بعدما تمّ تعليق العمل بالدستور السوري وفقًا لآخر تعديلاته. وثمّة أسئلة أكثر حول شكل السلطة التنفيذيّة في سوريا، ومدى قدرتها على إحكام قبضتها الأمنيّة على كامل الجغرافيا السوريّة، قبل الحديث عن طبيعة السياسات الاقتصاديّة التي ستعتمدها. وأخيرًا، ثمّة أسئلة حول قدرة هذه السلطة على فرض رؤى قائمة على مفاهيم “دولة القانون”، التي سترعى عمل الاقتصاد المحلّي، بمعزل عن إرادة التغيير التي تملكها.
ثمّة قائمة أخرى من الأسئلة حول العوامل الخارجيّة، وخصوصًا تلك المرتبطة بالعقوبات على سوريا. حتّى اللحظة، لم تشمل الإعفاءات التي أقرّتها وزارة الخزانة الأميركيّة المصرف المركزي السوري نفسه، ولو أنّها سمحت بالتحويلات الشخصيّة المباشرة إلى سوريا بالدولار الأميركي. والمضي قدمًا في الانفتاح الاقتصادي، سيستلزم أولًا الرفع الكامل للعقوبات الغربيّة المفروضة على سوريا، لطمأنة الرساميل المتجهة إلى نظامها المالي. هل سيكون ذلك متاحًا؟ وإذا اشترط الغرب ترتيبات معيّنة تشمل إقصاء روسيا –ووجودها العسكري- من سوريا، هل سيفعلها النظام الجديد؟ وإذا فعل، هل سيكون لذلك تبعات على الوضع الأمني في سوريا؟
مسألة العقوبات على سوريا، ستكون المتغيّر السياسي الأوّل الذي سيحكم قدرة النظام الجديد على استقطاب الاستثمارات، وتثبيت التوازنات النقديّة الهشّة. لقد انخفض إنتاج سوريا من النفط الخام من 400 ألف برميل يوميًا قبل الثورة إلى 40 ألف برميل فقط خلال العام الماضي. واستعادة القدرة الإنتاجيّة، ومن ثم استعادة التدفقات النقديّة بالعملات الأجنبيّة، سيحتاج أولًا إلى استثمارات كبيرة في هذا القطاع. وهذا ما سيصعب تحقيقه قبل الرفع الكامل للعقوبات، ومن ثم استقطاب الشركات الأجنبيّة القادرة على تفعيل الإنتاج المحلّي. هذا الوضع، ستحكمه التحوّلات السياسيّة وحدها.