لم تترك الأزمة المالية التي يعيشها لبنان قطاعاً إلا وأصابته بشظاياها. صحيح أن النتائج الاقتصادية الكارثية كانت الأبرز، غير أن للأزمة انعكاساتها أيضاً على تطبيق القوانين، والقدرة على مراقبة تنفيذها. قانون منع التدخين، قانون الغابات، قانون حماية المستهلك، قانون السير، عيّنة من قوانين باتت خارج التطبيق، يرى كثيرون أن الحديث عنها هامشي في ظلّ الانهيار الذي نعيشه. لكنها بالنسبة إلى كثيرين مؤشر هام إلى إمكانية استمرار مؤسسات الدولة
عندما يقصد المواطنون الدوائر والمؤسسات الرسمية لإنجاز معاملاتهم، غالباً ما سيقعون على ملصقات قديمة وباهتة اللون، تشير إلى أن التدخين ممنوع تحت طائلة الغرامة المالية، وفقاً للقانون 174 للحدّ من التدخين. القانون المذكور، والذي وُضع عام 2012، بعد حملات إعلامية مكثفة وضغوط من قبل الجمعيات المناهضة للتدخين، حَظرَ التدخين في وسائل النقل والأماكن العامة المغلفة (المؤسسات العامة، المستشفيات، دور السينما، المطاعم، مراكز التسوق التجاري…). لكن القانون لم يعمّر طويلاً، وبعدما كان يجري انتهاكه بطرق ملتوية، صار بعد الأزمة منسياً بل مجهولاً من قبل عدد كبير من اللبنانيين.
ترفض رئيسة جمعية «حياة حرة بلا تدخين» نادين كيروز، اتخاذ الأزمة الاقتصادية ذريعة لعدم تطبيق القانون، محمّلةً وزارات السياحة والصحة والاقتصاد مسؤولية عدم تطبيقه. تذكر كيروز أن الجمعية بصدد عقد لقاءات مع الوزارات المعنية بهدف حثّهم والضغط عليهم لإعادة تطبيق وتفعيل القانون 174، فضلاً عن القيام بحملات توعوية في المدارس لتذكير الطلاب بمخاطر التدخين، ولا سيما أن إحصاءات الجمعية تفيد بأن 40% من الطلاب يدخنون، خصوصاً مع انتشار «موضة» السجائر الإلكترونية في صفوفهم. هذه الأرقام الكارثية بحسب كيروز، «نتيجة طبيعية لعدم تطبيق قانون الحد من التدخين»، ما يستدعي برأيها تدخلاً عاجلاً لوقف هذه الكارثة الصحية.
قطع الأشجار
وكما انعكست الأزمة على البشر، طاولت الشجر أيضاً. عشرات آلاف من الأشجار المعمّرة جرى قطعها، في جريمة بيئية موصوفة وفي مخالفة صريحة للقوانين البيئية، ولا سيما قانون الغابات والقرار الصادر عن وزير الزراعة الرقم 1/433 المتعلّق بتنظيم قطع الأحراج والغابات واستثمارها. الارتفاع الجنوني لسعر مادة المازوت، فضلاً عن انقطاعها الدائم خلال الشتاء المنصرم، دفعا سكان المناطق الجبلية إلى التحطيب بهدف التدفئة، إذ وجدت العائلات نفسها أمام خيارين أحلاهما مرّ: مواجهة البرد القارس، أو مخالفة القانون واللجوء إلى قطع الأشجار، فاختار جزء كبير منها الخيار الثاني.
يعزّ على فؤاد، وهو أحد سكان القرى الجبلية أن يعمد إلى قطع أشجار لطالما عمل على حمايتها وصياناتها، لكن الظروف الحالية أجبرته على التحطيب. يقول: «بين رؤية أولادي يموتون برداً، وبين مشاهدة الحرج خالياً من الأشجار، اخترت المشهد الثاني رغم بشاعته». استباحة الغابات والأحراج، تعود بالدرجة الأولى إلى غياب رقابة الدولة، فأعداد حراس الأحراج في تناقص مستمر، فضلاً عن ضعف تجهيزاتهم ومعداتهم، في حين أن الناجحين في مباراة الخدمة المدنية الخاصة بالحراس، ممنوعون من التوظيف بحجة التوازن الطائفي. كما يساهم تواضع مبالغ الغرامات بحق المخالفين، وتحديداً مع انهيار الليرة في التشجيع على مخالفات القطع. وفي هذا السياق، يصف الخبير البيئي بول أبو راشد ما يجري تجاه الغابات والأحراج، وتحديداً في المناطق البعيدة كعكار وراشيا، بـ»المجزرة البيئية التي لم يسبق للبنان بأن شهد مثلها في تاريخه». يرفض أبو راشد تحميل فقراء المناطق الجبلية والداخلية مسؤولية الأزمة، فهؤلاء يأخذون فقط حاجتهم من الحطب، على عكس تجار الأزمات ومافيات الحطب، الذين يقومون بعملية إبادة جماعية للأشجار، بغية تحقيق أرباح طائلة، وذلك تحت مرأى ومسمع الجهات التي يفترض بها أن تسهر على حماية القوانين البيئية.
حماية المستهلك
وإذا كان الالتزام بقانون الحدّ من التدخين واحترام القوانين البيئية، خارج الأولوية بالنسبة إلى البعض، الذين يعتقدون أن البلد يمرّ بأزمات أخطر من ذلك، فإن قانون حماية المستهلك يجب أن يكون اليوم «مَلك القوانين»، ولا سيما أن اللبنانيين حالياً يتعرضون لشتى أنواع السرقة والنصب والاحتيال. أسعار السلع ذاتها تختلف بين مؤسسة وأخرى بشكل كبير، فضلاً عن لجوء مافيات الدواء والغذاء والمحروقات إلى الغش والاحتكار، ما يتعارض ويخالف بشكل واضح قانون حماية المستهلك، الذي بات اليوم، مجرد حبر على ورق. وزارة الاقتصاد تشكو من قلّة عدد مراقبي مديرية حماية المستهلك، ما يقلّص من قدرتهم على المراقبة، لكنهم يبذلون بحسب مصادر الوزارة «جهداً مضاعفاً خلال هذه الأزمة، بالرغم من تدني قيمة رواتبهم، إذ يعمدون إلى تسطير محاضر الضبط بحق المؤسسات المخالفة». في الفترة الأخيرة، ارتفعت المطالبات بمضاعفة أعداد المراقبين وزيادة الغرامات على المخالفين. الخطوتان، على أهميتهما، لن تكونا كافيتين ما لم تتخذ الدولة قراراً جريئاً بضرب مافيات الاحتكار، وهذا يتطلب خطوات عديدة، من أبرزها تطبيق قانون حماية المستهلك، الأمر الذي ما لم يحصل منذ إقراره عام 2005.
قانون السير
قانون السير بدوره، يتعرّض إلى انتهاكات خطيرة. قبل الأزمة، كان سائقو الدراجات النارية المخالفة وغير المسجلة، يحسبون ألف حساب قبل تجوّلهم في شوارع العاصمة والمدن اللبنانية الرئيسية، خشية مصادرة دراجاتهم. في ذلك «الزمن»، كانت قوى الأمن الداخلي تنظم حواجر متفرقة، للتأكد من سلامة الوضع القانوني للدراجين والدراجات النارية، وكانت بالفعل، تصادر عشرات الدراجات المخالفة يومياً. أما اليوم، فقد اختلف المشهد كلياً، عدد كبير من الدراجات التي لا يعتمر أصحابها خوذ السلامة والتي لا تحمل أي لوحة، تتجوّل براحة في طرقات بيروت، وتعبر إشارات السير المعطلة، وتمرّ قرب شرطة السير ودرّاجي قوى الأمن من دون أن تتم مصادرتها. كذلك يمكن ملاحظة حجم المخالفات الهائل على صعيد حزام الأمان، ومع أن أجهزة الدولة سعت طويلاً الى إقناع السائقين بأهميته وإلزاميته، من خلال الحواجز ومحاضر الضبط وحملات التوعية، بات حزام الأمان يخضع حالياً لمزاجية السائقين والركاب، ليتحول بالنسبة إليهم، من ممارسة إجبارية يفرضها القانون إلى عمل اختياري، في مخالفة واضحة لقانون السير.
وفي هذا الإطار، يشير رئيس جمعية «اليازا» المتخصصة في سلامة السير زياد عقل، إلى أن «مخالفات السير تشهد ارتفاعاً كبيراً، ولا سيما على صعيدي السرعة والحمولة الزائدة، ما يزيد من مخاطر الحوادث المرورية وما ينتج عنها من وفيات وإصابات لدى السائقين والمارة». المضحك المبكي بحسب عقل أن «ما يمنع تفاقم الأزمة، هو تراجع حركة مرور السيارات، نتيجة غلاء أسعار المحروقات، وإلا كنا ذهبنا نحو مشكلة أكبر على صعيد السلامة المرورية، نتيجة التفلت وعدم الالتزام بالقوانين». لذلك يطالب عقل القوى الأمنية بالعودة إلى التشدّد وقمع مخالفات السير.
مخالفات لا إرادية
وكما أتاحت الأزمة الاقتصادية المجال أمام تسهيل المخالفات، بفعل عدم تمكن الدولة من القيام بواجب الرقابة، أجبرت الأزمة في الوقت عينه، العديد من المواطنين على ارتكاب المخالفات أيضاً. على سبيل المثال، من لا يمكنه تسديد رسوم تسجيل دراجته ورخصة قيادته، سيجد نفسه مضطراً إلى القيادة بشكل غير قانوني ولا سيما مع ارتفاع كلفة النقل. وبالتالي، فإن العديد من المخالفات لا تحصل بسبب حبّ المخالفة، بل بداعي الحاجة والفقر.
تمادي المخالفات وارتفاع أعدادها، يمكن ردّهما إلى الصعوبات المالية واللوجستية التي تعاني منها القوى الأمنية، وخاصة مع تعطل الكثير من آلياتها، فضلاً عن تركيز جهودها على مكافحة عصابات السرقة والخطف، التي انتشرت بشكل كبير خلال سنوات الأزمة. التراخي في مواجهة العديد من المخالفات، يقابله المحافظة على التشدّد في قمع مخالفات أخرى، وتحديداً مخالفات البناء. يروي كمال كيف داهمته دورية من الدرك أثناء قيامه ببناء درج خلفي، وذلك بعد ساعة واحدة فقط من مباشرته بالبناء، يومها سطّرت الدورية محضر ضبط بحقه لعدم حيازته الرخصة المطلوبة. يقول كمال ساخراً: «لو كان عندي حرامي بالبيت ما كانوا اجوا بهالسرعة».