القَعر” مرادف لتبدّد الهوية والإسم والعلم!

تُنهي الأزمة اللبنانيَّة عامها الرابع على وقع غياب الحلول في الداخل والتوترات الدَمَويَّة المتنقلة على مساحة الوطن العربي مروراً بجائحة كورونا بتداعياتها المستمرة. تنوَّعَت الأزمات وتراكمت وألقت بثقلها على لبنان الغارق في أزمته السياسيَّة وفي تداعياتها الاقتصاديَّة والماليَّة والنقديَّة. في الظاهر قد تبدو الحرب اللبنانية قد انتهت؛ إلا أن ما وصل إليه لبنان يثبت أن منفذيها وازلامهم انتقلوا من ساحات القتال إلى المؤسسات ليُدخِلوا لبنان في آتون حرب سياسية لَم ولَن تنتهي إلا برحيلهم وهذا يَبدو مستحيلاً.

قَوَّض السياسيون مؤسسات الدولة وأضعفوها لتكريس الزبائنية السياسية، سيطروا على القطاع المصرفي وورطوا مصرف لبنان في تمويل الفساد الذي يؤمن استمرار حكمهم. أشعلوا الغرائز الطائفية، قتلوا حِسَّ المُواطنة فتحول لبنان إلى محرقة للودائع إلى أن انكسرت الحلقة مع اندلاع الثورة وتوقّف التدفقات. حينما انكشفت لعبة السياسة وتظهَّرَت مَعَالمها، إتَّخذ الانهيار عناوين كثيرة أخفت أسبابه وجعلت من نتائجه مادةً للتداول والتناحر والعلاج. إنهار القطاع المصرفي وفقد الدولار من الأسواق تزامناً مع استشراس المضاربة على سوق القطع وغياب الدولة عن الحدود وفي الداخل. تخلَّف لبنان عن سداد ديونه السيادية وبات «متعثراً» دون أن يفاوض الدائنين. بدَّدَ مصرف لبنان احتياطاته من العملة الصعبة على الدعم وتمويل الفساد والفاسدين. تراجعت المؤشرات الاقتصادية كنتيجة لفشل السياسة في إدارة الماضي وفي رسم معالم المستقبل. غرق لبنان في «الركود التضخمي» وهي حالةٌ من الركود والتضخم المتزامن زادت من حِدَّتِها تداعيات الحرب الروسية الأوكرانية على الاقتصاد العالمي والغياب الكلي للرقابة والمحاسبة.

تكريس الإقتصاد النقدي

ساهَمَ انسداد الأفق السياسي وعدم الجدية في التفاوض مع صندوق النقد واستمرار عدم ضبط الحدود في تكريس الاقتصاد النقدي الذي يمنع تتبع حركة الأموال والكشف عن مصدرها. بالإضافة إلى مساوئه الكبيرة على مستوى سمعة لبنان وتصنيفه، يمنع الاقتصاد النقدي وعدم مرور العمليات عبر المصارف أي تحديث دقيق للمؤشرات الاقتصادية كما يُبقي ميزان المدفوعات وبالتالي الموازنة والسياسة الماليَّة خارج الخدمة. قد تكون بعض القطاعات قد سجَّلَت تحسُّناً ظرفياً أو مستداماً إلا أن العلم يستند إلى بيانات البلدان لاحتساب النمو وليس إلى ما يتسنى له جمعه من الدويلات والمزارع في كل بلد. لا يمكن اعتماد الأرقام المتداولة على أنها تعكس حقيقة واقع الاقتصاد. انطلاقاً من توصيفنا وتحليلنا لأسباب الأزمة، تحَسُّن المؤشرات الاقتصادية رهنٌ بإنجاز حلّ سياسي يُعيد لبنان دولة تَضُمُّ جميع ابنائها خلف راية القانون والعدالة والشرعية الواحدة. عندها فقط يمكن الكلام عن خطة اقتصادية وإعادة هيكلة للمصارف وسياسة مالية للدولة.

تحسّن المؤشرات يتطلب حلّاً سياسيّاً

تَحَسُّن المؤشرات الإقتصادية لَن يكون نتيجةً انطلاق عَجَلَة القطاعات الإنتاجية، بل نتيجة حلّ سياسي يؤمن استعادة الثقة بلبنان الدولة والمؤسسات والعدالة وينتج عنه استعادة الثقة بالقطاع المصرفي مما يعيد لبنان الى الخريطة الاستثماريَّة. لَم يَصِل لبنان إلى القعر بعد، فالقعر مرادف لتبدد الهوية والاسم والعلم. طريق الحلّ لا يزال سالكاً وإن أصبح أكثر وعورة مع مرور الوقت. لبنان بحاجة لانعطافة سياسية تأخذه نحو سطح الأرض. فيوم تنبأ أحدهم بجهنم كنا هناك بالفعل إلا أنه هو «لم يكن يعلم». الكلام اليوم ليس في الاقتصاد بل في السياسة وهي الخصم والحَكَم. إن لم تأت السياسة بحلّ فلن يكون هناك حلّ. علاج النتائج لن يَعدو كونه من قَبيل المُسَكّنات.

البداية لا بُدَّ أن تكون بملء الفراغ بنساء ورجال دولة في إطارعقد وطني يجمع اللبنانيين، كل اللبنانيين حول الدولة وإلا ستشبه المئوية الثانية سابقتها!

مصدرنداء الوطن - مارون خاطر
المادة السابقةالاجتماعات السنوية للبنك الدولي وصندوق النقد مستمرة
المقالة القادمةعلى من تقع المسؤولية أولاً: المصارف أم مصرف لبنان؟