الكماليات حكر على مالكي “الفريش” دولار

مُفارقات عديدة أظهرتها الأزمة التي إنفجرت في لبنان منذ تشرين الاول 2019، فبالاضافة إلى المسؤولية الهائلة للطبقة السياسية في تحويل الاقتصاد إلى ريعي وضرب معظم القطاعات الانتاجية على مدى ثلاثة عقود، فإن حقيقة مؤلمة أخرى ظهرت إلى العلن وهي إفراط اللبنانيين في الإقبال على إقتناء كماليات غالباً مستوردة ويلزمها مليارات الدولارات لتسديد ثمنها. ذلك كان ممكناً بسبب ربط سعر صرف الليرة بالدولار ما اعطى العملة الوطنية قيمة سوقية أعلى من القيمة المفترضة اقتصادياً. شرائح من الشعب اللبناني أدمنت الاقبال على الكماليات بدءاً من سعيها لإقتناء أكثر من سيارة في البيت الواحد، وصولاً إلى الشراء الدوري للالبسة المستوردة والعطور والسيغار والزهور والمشروبات الكحولية والاطعمة الفاخرة والمياه المعدنية. لكن تراجع القدرة الشرائية عند غالبيته منذ 2019 جعلت هذه البضائع والمنتجات حكراً على شريحة معينة لا تزيد على 20%، لذلك تعرّض سوق الكماليات لما يشبه النكسة في 2020 وحاول أن يلتقط أنفاسه في العام الماضي لكنه بالتأكيد لم ولن يعود إلى سابق عهده في السنوات القليلة القادمة لأسباب متعددة.

قبل الغوص في شرح هذه الأسباب لا بد من الاشارة الى تخلّي شرائح من اللبنانيين عن السهر في النوادي والحانات الليلية وإرتياد المقاهي والمطاعم، بالرغم من أن بعضها يكون “كومبليه” في الاعياد وفصل الصيف بسبب زيارة المغتربين.

ومن الكماليات التي أقلع كثير من اللبنانيين عن شرائها السيغار والنظارات الشمسية وزينة السيارات (فئة الشباب)، وتغيير أثاث المنازل بشكل متكرر والـ “شوبينغ” الفاخر خصوصاً للسيدات. إذ إن الدخول إلى المجمعات التجارية الضخمة يومي السبت والأحد، كان من أصعب الأمور نظراً للزحمة العارمة. اما اليوم، فمن أراد الذهاب إلى مكان هادئ بعيداً عن الضجة، عليه بالذهاب إلى تلك المجمعات!

يشرح ماهر اللبّان (أحد مالكي شركة مصطفى اللبّان لتجارة العطور وأدوات التجميل) لـ”نداء الوطن” أن “الإنكفاء حصل في أواخر العام 2019 عند إنطلاق الانتفاضة ومع بداية مرحلة إرتفاع سعر الدولار، حينها حصل نوع من الصدمة لكل محبي الكماليات نتيجة فارق الاسعار”، لافتاً إلى أن “2020 و2021 كانا كارثيان على سوق الكماليات إذ إنخفضت مبيعات شركته إلى النصف، أولا بسبب إرتفاع سعر الدولار وثانياً بسبب الاقفال المتكرر نتيجة إنتشار جائحة كورونا”. يوضح اللبّان أنه “خلال هاتين السنتين كان يحصل نوع من الانتعاش للسوق مع قدوم المغتربين، وبعد تخفيف قيود كورونا في نهاية 2021 عادت الحركة إلى السوق، لكن بشكل موسمي مثل أعياد رأس السنة والميلاد، كما شهد السوق نشاطاً جيداً في فترة عيد الام العام الحالي”، متوقعاً أنه “في الاشهر المقبلة سيكون السوق “نائماً” بسبب قدوم شهر رمضان المبارك وكثرة الاستحقاقات التي ستمر على اللبنانيين. ولن ينتعش إلا مع قدوم المغتربين في الصيف”، ويؤكد أن “كل هذا النشاط لا يُقارن بالفترة التي سبقت العام 2019″.

بلغة الارقام تكشف دراسة أنجزتها الدولية للمعلومات أن أرقام الاستيراد على مدى الثلاثين عاماً الماضية (1990-2020) وصلت إلى 355 مليار دولار مقابل صادرات لم تتجاوز 64 ملياراً أي بعجز 291 ملياراً. أما المرحلة الجديدة التي يعيشها لبنان منذ الانتفاضة في ما خص سوق الكماليات تحديداََ فيشرحها الخبير الاحصائي الدكتور عباس طفيلي لـ”نداء الوطن” بالقول:” قبل الازمة، 6 مليارات دولار كانت القيمة السنوية لإستيراد لبنان للكماليات، وهذا رقم مستهجن وغير مقبول في الميزان العلمي، أما بعد الازمة يمكن تقسيم المرحلة التي مرّ بها هذا النوع من الاستيراد إلى قسمين. أولاً في 2020 كان الوضع الاقتصادي غير منتظم مع بقاء العديد من السلع مدعومة من المصرف المركزي ( بعد إقرار خطة الدعم)”، لافتاً إلى أنه “في 2021 تراجع استيراد الكماليات من البضائع. وعند مقارنة هاتين السنتين بالعام 2019 عندما بلغ اجمالي الاستيراد 19,2 مليار دولار سنوياً بما فيها 6 مليارات للكماليات، ففي العام 2020 تراجعت كلفة الاستيراد إلى 11.3 ملياراً بسبب الدعم، أما في العام 2021 فعاد وارتفع الى 13,6 مليار دولار، وانتعش إستيراد الكماليات من دون أن يعود إلى المستوى الذي كان عليه قبل الازمة”، و يوضح أن “هذا التراجع سُجل في كل من قطاعات الاحذية والعطورات والذهب والألماس (إنتعش بمستوى أكبر مما كان عليه قبل الازمة )”.

يضيف: “إذا أردنا التفصيل أكثر، بلغت حصة قطاع الالبسة في 2019 نحو 240 مليون دولار وفي 2020 إنخفضت إلى 79 مليوناً، أما في 2021 فعادت وإرتفعت إلى 90 مليون دولار. والسبب أن السوق إتكل على نفسه في تأمين دولارات الاستيراد من دون الاتكال على مصرف لبنان”، لافتاً إلى أن “هذا الامر مستمر في المرحلة المقبلة لأن زبائن هذا القطاع هم في الغالب من القادرين على الإستحصال على الدولار الفريش إما من خلال أبنائهم المغتربين أو من مردود أعمالهم خارج لبنان”.

في قطاع السيارات يلفت طفيلي إلى أنه “في 2019 بلغت كلفة الاستيراد ملياراً و100 مليون دولار وفي 2020 تراجع إلى 311 مليوناً، وفي 2021 عاد الرقم إلى الارتفاع فبلغ 812 مليون دولار لأسباب عدة منها الخوف من إرتفاع الدولار الجمركي، وثانياً إستعمال لبنان كمحطة للإستيراد نحو البلدان العربية خصوصاً أن رسوم الجمارك على السيارات هي الاقل في المنطقة (سوريا والاردن والعراق مثلا)”، مشيراً إلى أنه “في العام الحالي تم تسجيل 762 سيارة جديدة في النافعة مقابل 62 سيارة لنفس الفترة من العام 2021، كما زاد إستيراد البيسيكلات من 1.3 مليون في 2020 إلى 3 ملايين في 2021 “.

يرى طفيلي أنه وبالرغم من إستمرار الازمة فإستيراد الكماليات سيستمر لأن مدخول الشعب اللبناني يتغذى من مصدرين الاول تحويلات المغتربين التي بلغت في 2020 نحو 6.9 مليارات دولار وفي 2021 سجلت الرقم نفسه تقريباً”، معتبراً أن “هذه الاموال كفيلة بتنشيط السوق خصوصاً أنه لم يتم إقرار الدولار الجمركي، ونسبة غلاء المعيشة مقارنة مع سعر الصرف في السوق السوداء هي أقل بما بين 20 إلى 30%، وهذا يعني أن كل من يصله فريش دولار لا يزال يتمتع بقدرة شرائية عالية”، ويوضح أنه “حين يتم إقرار زيادة الدولار الجمركي فإن هذه القدرة ستكون كما كانت قبل الازمة. أما من يصله الدولار من المغتربين فسيعودون إلى حياتهم كما كانت قبل العام 2020”.

يوضح طفيلي أن “نسبة المغتربين تقارب 25% من الشعب اللبناني وتحويلات الخارج تصل إلى 250 ألف حوالة شهرياً، وهناك نحو 730 ألف شخص في لبنان لا يزالون يتقاضون رواتبهم بالدولار (الدولية للمعلومات) أي ثلث السكان تقريباً، وهؤلاء قوتهم الشرائية لا تزال كما كانت قبل 2019. أما القسم الآخر من الشعب اللبناني فيتقاضى بالليرة وستستمر قوته الشرائية بالتراجع”، مشدداً على أن “أسواق الالبسة والاحذية والعطور ستستمر ولكنها لن تعود إلى سابق عهدها، لأن صندوق النقد (في حال تم التوصل إلى إتفاق معه) سيفرض إصلاحات على القطاعات التي تدعمها الدولة مثل الطبابة والتعليم أي إلغاء المحسوبيات، والقدرة الشرائية للبنانيين ستظل هي نفسها لأصحاب الدولار أما أصحاب الليرة فلن يتمكنوا من تلبية إحتياجاتهم الأساسية ولا سيما الدواء”.

على ضفة المجلس الاقتصادي الاجتماعي الذي من المفترض أن تشكل دراساته وأرقامه إحدى الركائز التي تعتمدها الحكومة وأصحاب القرار للخروج من الازمة، لكن على أرض الواقع حتى هذه الإستشارات والتوصيات لا تلقى الاهتمام اللازم، يشرح ممثل القطاع التجاري في المجلس عدنان رمال لـ”نداء الوطن”: “إنهم يحاولون أن يكونوا شركاء مع أصحاب القرار في الدولة لإيجاد حل للأزمة، إذ يتم تزويد رئيس الحكومة والوزراء المختصين بكل المعطيات اللازمة عن الواقع الذي يعيشه اللبنانيون، مع التشديد بأن إستمرار الأزمة من دون حلول صحيحة أمر في غاية الخطورة”. يضيف: “إن الليرة اللبنانية فقدت من قدرتها الشرائية نحو 90% مما تسبب بخسارة نحو 80% من اللبنانيين (منتج / عامل او موظف أو صاحب وديعة) الكثير من قدرتهم لشراء المنتجات الكمالية وصار تركيزهم على تأمين السلع الاساسية والغذائية”. ويختم: “هذا ما إنعكس تراجعاً في نسب الاستيراد لهذه الكماليات في الاعوام التي تلت إنفجار الازمة بنسبة 40% تقريباً، وبأن الجزء الاكبر من هذا التراجع يتعلق بالكماليات إذ لم يعد يقبل عليها إلا نسبة 10-15% من الشعب اللبناني الذين يتقاضون رواتبهم بالدولار أو تصلهم حوالات من مغتربين أو تتركز أعمالهم خارج لبنان..

 

مصدرنداء الوطن - باسمة عطوي
المادة السابقةالصناعة الوطنية تقاوم جملة عوامل سلبية… وتصمد
المقالة القادمةكلفة “جاط” الفتّوش ترتفع 78% الى 84 ألف ليرة