لو كان هناك من أمل بأن «تنقّط» ضوءاً على بيروت وبقية لبنان، لكانت «غيّمت» تأهيلاً لمحطة التحويل ومركز التحكم في مار مخايل، وترميماً لمبنى مؤسسة الكهرباء المهدّم. المتبرعون للاصلاحات الاساسية المقدرة كلفتها ببضعة ملايين من الدولارات، لم يصرفوا بعد دولاراً واحداً منذ انفجار 4 آب، على عكس الدعم الذي تلقته بقية المؤسسات بسخاء. ومن هذا العنوان يمكن قراءة «مكتوب» الكهرباء المليء بعبارات انعدام الثقة، وفقدان الجدوى الاقتصادية لأي مساعدة مادية.
أيامٌ قليلة وتُطفِئ الكهرباء شمعة تهجّرها الثانية من حرم مؤسستها المهيبة القائمة مقابل المرفأ. البناء الفارغ المهدم والذي يحتاج إلى «ما بين 200 إلى 300 مليون دولار للاصلاح»، بحسب تقديرات وزير الطاقة السابق ريمون عجر، ليس هو مشكلة الكهرباء، بل تقويض مضمون المؤسسة، وإفراغه من أبسط أدوارها. فمعامل الانتاج متوقفة، والكهرباء تؤمّنها مولدات الاشتراك ومبادارت تركيب أنظمة الطاقة الشمسية الفردية. النقل مهترئ، ولا قدرة على صيانته. التوزيع ملزّم لمقدمي الخدمات. فماذا تبقى من هذه المؤسسة التي تقوم على الانتاج – النقل – والتوزيع؟ سؤال دفع البعض إلى المناداة بحلّها، وتطبيق لامركزية الكهرباء. فهل تحل المشكلة بهذه الطريقة؟
اللامركزية لا تتوافق مع اهتراء الدولة
«من المستحيل أن تكون اللامركزية حلاً لأزمة الكهرباء في ظل انهيار الدولة وتفككها»، برأي الباحث في مجال الطاقة في معهد عصام فارس د. مارك أيوب. فـ»اللامركزية الطاقوية تتطلب بالدرجة الاولى وجود دولة قوية تشكل مرجعاً للجميع. أما في الحالة اللبنانية الراهنة فان اللامركزية ستؤول من إدارة الدولة الفاشلة للكهرباء إلى إدارة زعماء المناطق والاحزاب. الامر الذي سيسهم في تفكيك المؤسسات وزيادة التبعية الطائفية وتكريس واقع محلي بلدي يزيد من هيمنة الاحزاب على مفاصل البلد. فندخل بفوضى جديدة، لا تقل سوءاً عن فوضى قطاع المولدات».
ناجحة على صعيد الطاقة المتجددة
هذا من الناحية النظرية، أما عملياً فان اللامركزية في مجال الطاقة التقليدية القائمة على المعامل الحرارية مكلفة أكثر بكثير على الصعيد المالي، وتتطلب وقتاً أطول. وذلك «على عكس اللامركزية المطلوبة في مجال الطاقة المتجددة»، برأي أيوب، و»الذي يلحظه قانون الطاقة الشمسية الموزعة المنتظر بحثه في مجلس النواب، حيث يسمح لبعض البلديات والجهات المستثمرة بالانتاج العام والتوزيع. وهذان النوعان من الانتاج عن طريق المركزية الطاقوية الحرارية، واللامركزية على الطاقة المتجددة، يعاد ربطهما على شبكة واحدة مؤهلة بواسطة العدادات الذكية. الامر الذي يؤمن مصلحة قطاع الطاقة من جهة والمواطنين ومؤسسات الانتاج من جهة ثانية».
فتح القطاع أمام المنافسة
وجهة النظر هذه لا تعني بحسب أحد المصادر المعنية بقطاع الكهرباء «صحة حصرية الانتاج والنقل والتوزيع في يد مؤسسة واحد، هي اليوم مؤسسة كهرباء لبنان». وبرأيه فان «أحد شروط التقدم في مجال الطاقة لجهة تأمين أحسن خدمة بأفضل الاسعار هو فتح السوق أمام المنافسة الحرة، بشكل أن يكون هناك عدة شركات معنية بمسائل الانتاج والنقل تتنافس في ما بينها على تقديم أفضل الخدمات التي تصب في نهاية المطاف في مصلحة المستهلك النهائي.
كلفة التعطيل
بين الواقع والمأمول، تبقى الكهرباء اليوم معطّلة، تكلف المواطنين والاقتصاد خسائر بملايين الدولارات مع كل إشراقة نهار. ومما يزيد في وهنها غير المسبوق عدم تنفيذ الاصلاحات للحصول على المساعدات. أو أقله القيام بالمطلوب لعدم إعطاء الجهات الدولية العذر الشرعي لعدم تقديم يد العون. فـ»الاموال المخصصة مثلاً لتأهيل مركز التحكم ومحطة التحويل في مار مخايل بالقرب من المؤسسة، جمعت من خلال المبادرات الدولية لكنها لن تصرف ما لم يرعَ صندوق النقد الدولي البرنامج الاصلاحي المستقبلي»، بحسب أيوب. و»بنتيجة هذا الواقع من الواضح أننا ذاهبون إلى الانهيار الشامل على كل المستويات». فالمؤسسىة متروكة لقدرها والموظفون مشتتون والدولة عاجزة عن صيانة المعامل والشبكة، والانتاج معطل، والهدر يتجاوز 60 في المئة. و»في احسن الاحوال قد نبقى على ما نحن عليه اليوم أي تأمين الحد الادنى من الطاقة يومياً بشكل ألا تتعدى كمية التغذية 200 ميغاواط إلى أمد غير معروف. وهذا لا يؤثر سلباً على كافة مفاصل الحياة فحسب، إنما يمنع الاستثمارات بشكل كلي. فبحسب أيوب، كانت تقديرات الخسائر نتيجة تدهور وضع الكهرباء تتراوح في العام الماضي بين 5 و10 ملايين دولار يومياً. مع العلم أن أسعار المازوت كانت أرخص بما لا يقاس وسعر الصرف الدولار كان أقل بكثير. أما اليوم فان الكلفة المباشرة قد تضاعفت من دون شك على أقل تقدير. أما الخسائر الاكبر فهي غير المباشرة وحرمان الاقتصاد من فرص الاستثمار، إذ يستحيل تحقيق نمو وازدهار وتشجيع على التوظيف في مختلف القطاعات في ظل أسعار طاقة تتجاوز 55 و60 سنتاً لكل كيلوواط ساعة وترتفع في احيان كثيرة إلى 70 سنتاً. فهذا الرقم خيالي لا يرهق المواطنين انما يشكل مقتلاً حقيقياً للاقتصاد ويعدم كل فرص النمو.
التصفية
مكمن الخوف يكمن في جهل ما يخطط له، ومن أن يكون إفراغ المؤسسة من كل مهامها ومن كوادرها وأجهزتها هو عمل مقصود لتسهيل تقسيمها وبيعها في مستقبل غير بعيد. فقد سبق حالة الوهن هذه، «تكريس أساليب جديدة من العمل لم يشهد لها لبنان مثيلاً. وذلك على غرار الجباية من دون قراءة العدادات، وإضافة مجموعة من الرسوم والاشتراكات تحوّل سعر 35 ليرة للكيلوواط ساعة إلى سعر نظري وهمي لا أساس له من الصحة»، بحسب النقابي أديب أبو حبيب. فـ»اختفاء الرقم عن الفواتير الحالية في خانة العداد السابق يجعل من عملية التحصيل غير قانونية ولا تستند إلى رقم المصروف الحقيقي، بغض النظر عن قيمة الليرة حالياً. فالجباية تتم تقديرياً، وهذا يشكل خللاً جوهرياً بحاجة إلى معالجة فورية. ومن الجهة الثانية فان احتساب رسم العداد، ورسم الاستهلاك، والضريبة على القيمة المضافة وتدوير كسر الألف واحتساب بدل الطابع يصبح المعدل الوسطي 120 ليرة على كل الشطور والشرائح وليس 35 و250 و70 ليرة. وعليه فان الاستنتاج بحسب أبو حبيب هو «التصميم على افشال كل مؤسسات الدولة لوضع اليد عليها واستلامها بسعر رخيص».
هذه السياسة التي بدأت مع تلزيم التوزيع تأتي من ضمن سياسة تفكيك مؤسسات الدولة لبيعها بالمجان، وهي لا تقتصر برأي أبو حبيب على قطاع الكهرباء فقط. ولأخذ مثال عن خطورة ما يحضّر يقول أبو حبيب، إن «مساحة أملاك مصلحة السكة الحديد والنقل المشترك في لبنان تبلغ حوالى 240 كلم². وهي تمتد على طول الشاطئ اللبناني بعرض بين 10 و25 متراً من الناقورة جنوباً إلى العبدة شمالاً، ومن بيروت صعوداً إلى رياق. هذا عدا عن المحطات التي تبلغ مساحة بعضها 65 ألف م² مثل محطة مار مخايل. وعليه إذا بيع المتر الواحد بـ 100$ فان إجمالي الرقم كفيل بتعويض الخسائر. وهذا ما يسعون الى الوصول إليه منذ بدء الازمة.