اللعب على انقسام المودعين: رسائل الشارع تخدم المصارف

تأخّرت عملية وقف استنزاف الودائع ونجحت المصارف والسلطة السياسية بتذويب القسم الأكبر من تلك الودائع عبر قرارات وتعاميم وإجراءات غير قانونية. وخلال مسار الأزمة منذ نهاية العام 2019، رفضت المصارف القوانين والتعاميم التي تقيّد سلطتها على الودائع وتحمِّلها المسؤولية الأساس عن خسارة المودعين لأموالهم. واليوم، بالتوازي مع نقاش الحكومة مشروع قانون استعادة الانتظام المالي وردّ الودائع، برزَ انقسام أفقي بين أصحاب المصارف، فمنهم مَن يريد الاستفادة من مشروع القانون لإنهاء الأزمة وتسهيل وصول الدولة إلى اتفاق مع صندوق النقد الدولي والسير بطريق التعافي. وبين مَن يريد الإبقاء على الوضع القائم والرهان على الوقت لابتداع حلول لمصلحته.

وانتقل الانقسام إلى المودعين، إذ ترى جهات ممثِّلة لبعض المودعين، أنّه يجب إسقاط المشروع خلال جلسة الحكومة اليوم الاثنين، فيما تؤكّد جهات أخرى أنّ تمرير المشروع يصبّ في صالح المودعين. ولكلٍّ اعتباراته وتقييمه لمشكلة الودائع وآلية الخروج منها. على أنّ انقسام المودعين ظهرَ في امتحان الشارع، بعدما أصرّ بعضهم على أنّ الشارع هو المكان الأنسب للتعبير عن رفضه لمشروع القانون، وبين مَن وَضَعَ ملاحظاته في كتب أرسِلَت إلى المعنيين، بعيداً من الشارع.

رسائل من الشارع

لم يكن الشارع خياراً مستجداً بالنسبة للمودعين للتعبير عن رفضهم المماطلة في تحرير أموالهم العالقة في المصارف، بل كان الشارع لسنوات منبراً لإيصال رسائل قاسية للمصارف والسلطة السياسية، وصل بعضها إلى حدّ تكسير واجهات بعض المصارف وإحراق صرّافات آلية. ومع ذلك، لم ينجح هؤلاء في بلوغ أهدافهم.

رسائل الشارع تُستَكمَل اليوم بموازاة اجتماع الحكومة. ومَن اختار الشارع لاستكمال ضغطه، رأى أنّ “مشروع القانون الحالي يؤدّي إلى فكّ الارتباط بين المصارف والمودعين”، وفق ما أكّدته مصادر في “صرخة المودعين”، إحدى المجموعات التي يتكتّل بعض المودعين تحت لوائها، وفضّلت الاعتراض على المشروع انطلاقاً من الشارع.

وقالت المصادر في حديث لـ”المدن”، إنّ رفض مشروع القانون يأتي بشكل أساسي من كونه “يحمِّل المسؤولية للدولة والمصرف المركزي عوض المصارف، وبذلك، تكون أموالنا قد أصبحت لدى الدولة وليس المصارف، ومَن يضمن قيمة السندات التي قد يحال بعضها إلى 20 سنة؟”. وأشارت إلى أنّ العلاقة التعاقدية في مسألة الودائع “يجب أن تبقى بين المصارف والمودعين، لتبقى المصارف مسؤولة عن الأموال”.

رفض المشروع من قِبَل المودعين الذين آثروا النزول إلى الشارع، يتقاطع مع المصارف الرافضة أيضاً، إلاّ أنّ “كل طرف لديه أهدافه وأسبابه لرفض المشروع”. وأضافت المصادر أنّ صرخة المودعين تعتبر “مشروع القانون الحالي يظلم نحو 70 بالمئة من المودعين”. في حين أنّ أساس الرفض ينبع من “إعفاء المصارف من مسؤولياتها وتحميلها للمصرف المركزي، ولا ثقة لنا بالمركزي الذي سيعطي باقي المبالغ التي تفوق الـ100 ألف دولار، بسندات يصل مداها الزمني إلى 20 سنة، ومع الوقت، قد تظهر ازمة جديدة تقول خلالها الدولة أنّها ستؤجّل دفع التزاماتها بالسندات إلى فترة أطول”.

الخطوة الأولى

الصيغة الحالية للمشروع، على علّاتها، شكّلت نقطة انطلاق إيجابية نحو حلّ الأزمة تدريجياً، الأمر الذي اعتبرته بعض المجموعات الممثِّلة للمودعين “خطوة يمكن البناء عليها”، وبالتالي، لم يعد النزول إلى الشارع مهمّاً.

الخطوة الأولى تتمثّل بـ”الحاجة الماسّة للخروج بقانون للفجوة المالية يستكمل قانونيّ الإصلاح المصرفي والسرية المصرفية، وهذه القوانين مطلوبة لإنهاء الأزمة المالية والنقدية وللخروج العادل والمتوازن منها، بما يضمن حقوق المودعين ويُنهي الأزمة”، وفق ما أكّده العضو المؤسِّس في رابطة المودعين، رائد بو حمدان، الذي أشار في حديث لـ”المدن” إلى أنّ “المشروع عليه الكثير من الملاحظات، وأرسلنا كتباً إلى مجلس الوزراء وإلى كل الوزراء على حدة، وسجّلنا فيها ملاحظاتنا على المشروع”. وعليه، لا يرى المودعون المنضوون تحت لواء الرابطة، أنّ “إسقاط مشروع القانون كاملاً، هو الحلّ المناسب. بل إنّ إسقاطه يعني استمرار الأزمة، وهو أخطر ما في الأمر. ولذلك، علينا العمل على تحسين وتطوير المشروع بدل إسقاطه”.

الرفض المطلق بالنسبة يصبّ في خدمة المصارف. فبحسب بو حمدان “المصارف تطرح اللا حل، وهو السيناريو الذي يساعدها على استمرار الأزمة، وهو ما عملت عليه المصارف خلال السنوات الستّ الماضية حين أسقطت كل الحلول التي طرحت. وخلال هذه الفترة، ذوَّبَت المصارف الودائع وقامت بعملية هيركات مقنّعة واحتجزت أموال الناس خلافاً للقانون وبلا محاسبة قضائية”. ولتغيير الوضع، فإنّ “المصلحة تقتضي إنهاء الأزمة ووقف الانهيار وإيجاد حلول عادلة وتوزيع المسؤوليات وفق المعايير الدولية، بحيث تتحمّل المصارف الخسائر بالشكل المطلوب، وهو ما ترفضه المصارف”.

الموافقة على المشروع لا تعني غياب الملاحظات، ومن أهم الاعتراضات التي تبديها رابطة المودعين، هي “المَسّ باحتياطي الذهب”. وبنظر بو حمدان، فإنّ الصيغة الحالية للمشروع، تبيح “المقامرة بالذهب من خلال إطفاء خسائر المصارف ببيع الذهب، أيّ أنّ السلطة تريد إطفاء خسائر نحو 1 بالمئة من المجتمع اللبناني بذهب يملكه كلّ الشعب ويمثّل ثروته الوطنية. في حين أنّ استرداد الودائع يتم من خلال رساميل وأرباح وأموال من قامروا بأموال المودعين على مدة 25 سنة”.

خدمة للمصارف

في الوقت عينه، رفضت جهات أخرى النزول إلى الشارع انطلاقاً من أنّ “المصارف حرّكت بعض أذرعها في جهات تمثّل المودعين. ولذلك، فإنّ النزول إلى الشارع في هذا الظرف، يفيد المصارف التي تريد افتعال ضجة كبيرة في الشارع علّها تساهم في إسقاط مشروع القانون”، على حدّ تعبير مصادر في إحدى المجموعات التي يتكتّل ضمنها بعض المودعين، والتي اعتبرت في حديث لـ”المدن”، أنّ “الاعتراض على مشروع القانون ممكن وضروري، لكن ليس في الشارع، حين يصبح الشارع وسيلة لتحقيق أهداف المصارف”.

ولفتت المصادر النظر إلى أنّ “المصارف عادة ما تلجأ إلى خرق الجهات التي تتحرّك ضدّها، سواء المودعين أو حتّى موظّفي المصارف حين يطالبون بحقوقهم. وكلّنا نتذكّر كيف لجأت المصارف إلى الإقفال في بداية الأزمة واستغلّت أوضاع موظّفيها لتقفل أبوابها مراراً بحجّة الاعتداء عليهم من قِبَل المودعين الذين يطالبون بحقوقهم. وخلال فترات الإقفال، كانت تُهَرَّب أموال كبار المودعين والسياسيين ومساهمي المصارف، في حين أنّ المودعين والموظّفين، هم الحلقة الخاسرة”. والمرحلة اليوم، وفق المصادر، تحتاج إلى “الهدوء والتفكير بحلول منهجية قابلة للتحقّق”.

المحاسبة ضرورية

تستغلّ المصارف نظرة بعض المودعين إلى مشروع القانون من زاوية إحالة قسم من قيمة الودائع إلى سندات تُدفَع لاحقاً، للقول بأنّ المشروع لا يعطي المودعين حقوقهم، وتالياً يجب إسقاطه. بالفعل، إنّ تلك الإحالة مجحفة، لكن المصارف لم تتحرّك إنسانيّتها فجأة لتكتشف أنّ المودعين سيخسرون قيمة كبيرة من ودائعهم مع الوقت، بل إنّ بنوداً أخرى في المشروع، هي الأهم بالنسبة للمصارف، ومنها على سبيل المثال “توسيع دائرة المساهمين في ردم الفجوة لكي يشمل كل من إستفاد من حالة الانهيار المالي، ومنهم كبار المساهمين في المصارف وأعضاء مجالس الإدارة والمدراء العامين والتنفيذيين وأقاربهم، والأشخاص المعرضين سياسياً، والذين استفادوا من نتائج الهندسات المالية أو الفوائد… وغيرهم”.

والتوجّه نحو هؤلاء، يعني بالنسبة إلى المحامي والأستاذ المحاضر في قانون الضرائب والمالية العامة، كريم ضاهر، أنّ المصارف باتت في الواجهة. ويبدي ضاهر في حديث لـ”المدن”، تفاؤله بمشروع القانون الحالي، رغم شوائبه وانقسام المودعين حوله، إذ أنّ “المشروع ضروري في الوقت الحالي، لأنّ المجتمع الدولي يضغط على الطبقة السياسية للوصول إلى تسوية تعيد إطلاق البلد. ويريد المجتمع الدولي تطبيق الشروط الإصلاحية لأنّ عدم تطبيقها يعني البقاء على الوضع الراهن وزيادة خسائر الناس، وخصوصاً الطبقة الوسطى التي تتمثّل بنحو 40 في المئة من الودائع في المصارف، أي من بين مَن يملكون 100 ألف دولار، وصولاً إلى مليون دولار. وهؤلاء يستطيعون تسيير الاقتصاد وإعادة الثقة، وبالتأكيد، لا يستطيعون فعل ذلك من خلال سحب 800 أو 1000 دولار شهرياً. ولذلك، تعمل المصارف على تصفية حسابات هؤلاء والاستفادة من عمولات السحوبات المصرفية. كما أنّ السياسيين الفاسدين، مرتاحون لهذا الواقع الذي يساهم في عدم اكتشاف ارتكاباتهم”.

على المودعين، بحسب ضاهر “التيقّن من أنّهم لن يذهبوا إلى المصارف أو مصرف لبنان وإيجاد أموالهم هناك، إلاّ إن أرادوا بيع الذهب، وهو أمر غير مسموح به”. فعلى أقل تقدير “تزيد التطوّرات الحاصلة في لبنان من أزمة استعمال الذهب. فبعد الحرب الأخيرة، بات هناك أشخاص يحتاجون إلى مزيد من الإنفاق العام لتأمين احتياجاتهم في فترة ما بعد الحرب، وإذا باعت الدولة جزءاً من الذهب لصالح المودعين، فسيطالب متضرّرو الحرب بحصّتهم من عائدات الذهب، بوصف إعادة الإعمار اولوية تطغى على قضية الودائع. وهنا، يصبح المودعون في مواجهة المتضرّرين”.

تهرّب المصارف من المشروع، يوازيه تهرّب الحكومة من إدراج بنود في المشروع، تتعلّق بالمحاسبة “وخارج إطار المحاسبة، لا يمكن قلب الطاولة وكشف المستور ومحاسبة المرتكبين. وجزء من محاولة المصارف تطيير المشروع، يتعلّق بعدم المحاسبة. على أنّ المحاسبة، من جهة أخرى، تطمئن المودعين الذين سيحصلون على بعض أموالهم على شكل سندات”. ولذلك، يصف ضاهر معركة مشروع القانون بـ”المعركة ضد الفساد”. ويصبح النصر أقرب إذا تم تعديل بنود المشروع “لتلتقي مع قوانين الإثراء غير المشروع وقانون رفع السرية المصرفية… وغيرها من القوانين التي تُسقِط اللوبي السياسي مع لوبي الأعمال والمصارف”. ووسط هذا السجال، وإذا أرادت الحكومة كسب معركتها، يعتقد ضاهر أنّ عليها “التواصل بشكل أفضل مع المودعين لتبني الثقة معهم، وذلك يتم من خلال تبنّي المحاسبة”.

تناقضات واضحة بين المودعين في طريقة مقاربة مشروع القانون والنظر إليه كخطوة أولى على طريق حلّ أزمة الودائع. وهذا التناقض يصبّ في مصلحة المصارف التي تستغلّه لإسقاط المشروع، إلاّ إذا نجحت الأصوات التي ترى في تعديل بنود المشروع، فرصة للاستناد على قاعدة قانونية لاستكمال معركة الودائع في وجه المصارف، عوض ترك الأمور خارج الأطر القانونية.

مصدرالمدن - خضر حسان
المادة السابقة“جلسة الفجوة الماليّة”: النقاشات والتعديلات وخارطة المواقف
المقالة القادمةاضطراب الإمدادات في البحر الأسود يضغط على أسواق القمح