على وقع قرقعة طبول الانهيار ومن تحت أنقاض الأعمدة الوطنية المتداعية، اقتصادياً ومالياً ومعيشياً واجتماعياً، بفعل إمعان المنظومة الجهنمية الحاكمة في تقطيع أوصال البلد وقطع طريق الإصلاح، أطل حاكم المصرف المركزي رياض سلامة أمس ليؤكد المضي قدماً باتجاه تكريس السياسات الترقيعية الهادفة إلى تعويم السلطة وإعادة الملاءة إلى الخزينة المنهوبة، فأعلن أنّ “سعر صرف الدولار (الرسمي) سينتقل من 1500 الى 15000 الف ليرة اعتباراً من شباط المقبل”، مع الاشارة الى ان السحوبات من الودائع الدولارية (التي تحولت الى لولار، اي قيمتها اقل من قيمة الدولار “الفرش” الحقيقي) ستحصل عند السعر الجديد. ما يعني ان الهيركات (اي الاقتطاع القسري) بالنسبة لتعاميم معينة سيكون أكثر من 60% بأسعار اليوم (نحو 40 الف ليرة للدولار)، علما بأن الدولار في السوق الموازية يرتفع باضطراد ما يزيد نسبة “الهيركات” حتماً. ولم يذكر الحاكم أثر تطبيق السعر الجديد على ميزانيات المصارف، لا سيما رساميلها التي ستنخفض الى حد الاضمحلال، لأن معظمها محسوب على 1500 ليرة. وإذا طبق السعر الجديد تصبح المصارف في حالة افلاس معلن رسمياً، ولو أنها كذلك نسبياً منذ اليوم الأول لتوقفها عن سداد الودائع لأصحابها .
وقال سلامة أمس لـ”قناة الحرة” ضمن برنامج المشهد اللبناني: “سيصبح العمل بالتعميمين 151 و 158 على 15000 بدل 8000 و12000، وهي مرحلة باتجاه توحيد أسعار الصرف مع سعرين فقط مرحلياً، 15000 و سعر صيرفة”، متجاهلاً السعر الرائج في السوق الموازية، والمقترب حالياً من 40 الف ليرة للدولار. فتوحيد سعر الصرف، برأيه “لا يمكن تحقيقه ضربة واحدة، لذلك ستكون هذه المرحلة الأولى لغاية أن تصبح “صيرفة” من يحدد السعر حسب العرض والطلب”. وأكد أن مصرف لبنان سيكون بالمرصاد اذا اراد التدخل في سوق القطع قائلاً: “هناك في السوق 70 تريليون ليرة لبنانية، وبإمكاننا لمّ كل اللّيرات عندما نقرر، فالأسواق تعرف هذا الشيء. وإذا قررنا، يمكننا وضع مليار دولار لتجفيف السوق من الليرات”. اما لماذا لا يفعلها ويخفض سعر الدولار جذرياً، فترك الجواب في علم الغيب. إذ إن ما يشير إليه، على سبيل التهديد، ليس مجدياً عملياً لأن كلفته عالية مما تبقى من أموال المودعين، وأثره محدود في وقت قصير محدد، لتعود بعده قوى السوق الأخرى للتحكم بسعر الصرف الموازي، كما حصل أكثر من مرة منذ بدء انهيار العملة الوطنية التي باتت فاقدة 96% من قيمتها، رغم، وبفعل، فقدان الاحتياطي أكثر من 20 مليار دولار منذ أواخر 2019.
على صعيد آخر، أشار الى “ان الاحصاءات الأخيرة في مصرف لبنان تبيّن نمواً اقتصادياً في 2022 بنسبة 2%، وارتفاعاً في حركة الاستيراد لتبقى المشكلة في القطاع العام الذي يخلق الثقل على الاقتصاد”. وهو بذلك يكرر سمفونية قديمة منذ اقرار سلسلة الرتب والرواتب في 2017 ، قافزاً فوق حقيقة ان الاستيراد، الذي يتغنى بارتفاعه من جديد، جزء أساسي من الضغط على سعر الصرف بفعل الحاجة الى المزيد من الدولارات.
وعن تمويل زيادات رواتب موظفي القطاع، قال إن “هذه مسؤولية الدولة وليس مصرف لبنان، فإذا لجأ مصرف لبنان الى طبع العملة فإنه يخلق تضخماً أكبر من التضخم الناتج عن تراجع سعر صرف الليرة. لذلك فالمطلوب خطوات اصلاحية وتأمين مداخيل للدولة لتمويل هذه الزيادات”، في اشارة الى الدولار الجمركي الذي أجلت وزارة المالية اعتماده بعد رفض الرئيس نبيه بري ذلك بأمر مباشر وجهه الى وزير المالية يوسف الخليل.
وأشار الى أنه “قبل الزيادة كانت الرواتب تساوي تريليون و300 مليون ليرة (شهريا) وأصبحت تساوي 3 تريليون و300 مليون ليرة. أي أن مصرف لبنان سيضخ خلال الأشهر الـ3 المقبلة، مع المفعول الرجعي، 340 مليون دولار. وتمّ تأمين الدولارات من دون إضعاف البنك المركزي وبشكل لا يوصلنا الى الأسوأ”.
وأوضح أن الموجودات الخارجية لمصرف لبنان، السائلة والمتاحة للتصرف بها، تبلغ 10,3 مليارات دولار. وبذلك يكتم سلامة ما كان يشير اليه دائماً عن ان الاحتياطي الالزامي غير قابل للاستعمال، والذي على أساسه أوقف الدعم، ليبقيه في نطاق ضيق جداً.
وأفاد بأن صندوق النقد كان نصح بأن تأتي زيادات القطاع العام مدروسة “أي أن تطال الموظفين العاملين ولكن هناك من هم ربما خارج البلد. لذلك فإن إعادة النظر بطريقة إدارة الدولة ضرورية. فليس مصرف لبنان هو القادر لوحده على حل كل شيء”. وفي ذلك تكرار شبه دائم من سلامة بأن المشكلة الأساس تكمن في القطاع العام، ولا يعترف بالانهيار المصرفي الذي أودى بودائع الناس وبدد منها نحو 100 مليار دولار في ثقب اسود بين مصرف لبنان والمصارف.
بالنسبة للكهرباء، أكّد سلامة انه لن يموّل شراء الفيول من احتياطيات المصرف المركزي. وأن الحكومة تدرس إمكانية فتح اعتمادات مع تسديد لاحق بعد ستة اشهر، و”ستتفق معنا حول كيفية تأمين الدعم لهذه الاعتمادات، على ان لا يكون مصدرها احتياطيات المصرف المركزي. وهذه المبالغ يمكن تأمينها من خلال الجباية، ونعتقد أنه بإمكانهم جباية ما يساوي 300 مليون دولار”.
وعن حلّ مجلس ادارة بنك البركة قال سلامة: “ليس مصرف لبنان الذي يتخذ هذا القرار، إنما الهيئة المصرفية العليا وذلك بعد عدة جلسات وبعد الاستماع اليهم”. وأكد ان المطلوب تطبيق تعاميم مصرف لبنان، والمصارف التي لا تطبق التعاميم تحال الى الهيئة المصرفية العليا، وهي هيئة مستقلة عن مصرف لبنان وقراراتها غير قابلة للمراجعة”. وقال “ان لدى البنك نقص سيولة ونقص رأس مال”. موضحاً “أن تعيين مدير موقت للبنك ليس بهدف إفلاسه”، آملاً “أن يتمكن هذا المدير من تأمين التوازنات وأن تكون هذه المحاولة ناجحة”. وحول إعادة الودائع أشار الى أنه يجب تأمين السيولة لذلك وخلق حركة اقتصادية.