الليرتان اللبنانية والتركية: أردوغان وسلامة نقيضا السياسات النقدية المتطرفة

في لبنان وتركيا، ثمّة تأثيرات خارجيّة تركت أثرها على البلدين بأشكال متشابهة منذ أكثر 13 سنة. فبعد العام 2008، تدفقت السيولة بالعملة الصعبة إلى البلدين بشكل كبير، نتيجة الأزمة الماليّة العالميّة التي ضربت الأسواق المتقدمة، وما رافقها من نكسات مصرفيّة هناك وتخفيض قياسي في معدلات الفوائد. يومها، هاجرت الرساميل إلى الأسواق الناشئة –كلبنان وتركيا- للاستفادة من معدلات الفوائد الجيّدة، والأنظمة الماليّة التي كانت بمنأى نسبيًّا عن الأزمة العالميّة. ولذلك، كانت الدولتان من بين الأسواق الناشئة التي أفرطت أنظمتها المصرفيّة في استيعاب الودائع بالعملة الأجنبيّة خلال الأعوام التي تلت 2008، والتي كانت في واقع الأمر التزامات بالعملة الصعبة ستستحق يومًا ما على هذه الأنظمة المصرفيّة.

بين لبنان وتركيا، تشابهت الضغوط الماليّة التي اشتدّت عام 2015، يوم عادت الأسواق الماليّة المتقدّمة إلى رفع معدلات الفوائد، واستعادت جاذبيّتها في أعين المستثمرين بعد أن تجاوزت أزمتها، فعادت الرساميل إلى النزوح باتجاه تلك الأسواق. كان لبنان قد بدأ بالمعاناة من عجز ميزان المدفوعات –الذي يلخص صافي الحركة الماليّة بين لبنان والخارج- منذ العام 2011، لكنّ هذا العجز سجّل مستوى قياسياً وغير مسبوق سنة 2015 ببلوغه مستوى 3.35 مليار دولار. بالتأكيد، تنوّعت أسباب هذا العجز والعوامل اللبنانيّة المحليّة التي أدّت إلى تفاقمه، لكنّ مصارف لبنان كانت أيضًا جزءاً من حركة ماليّة عالميّة عانت منها الكثير من الأسواق الناشئة في ذلك الوقت، نتيجة ضغط هجرة الرساميل باتجاه الدول المتقدمة.

هكذا إذًا كان المشترك بين تركيا ولبنان عام 2015 مرورهما بأزمة تحويلات إلى الخارج، ومنذ ذلك الوقت كان بالإمكان رصد السياسات النقديّة المتطرّفة والمتناقضة التي تم اعتمادها في البلدين للتعامل مع هذا الوضع. حاكم مصرف لبنان، كان قد ربط اسمه منذ التسعينات باستقرار الليرة اللبنانيّة وسلامتها، وهو ما جعل الدفاع عن قيمة الليرة أولويّة تفوق بأهميّتها أي اعتبار آخر، ولو كانت كلفة تثبيت سعر الصرف المجازفة بسلامة النظام المصرفي بعد الإفراط في تحميل ميزانيّاته خسائر ضخمة.

ولذلك، اندفع الحاكم أولًا في لعبة رفع الفوائد لاستقطاب تحويلات خارجيّة كفيلة بتعويم احتياطاته، التي كان يستخدمها للدفاع عن سعر الصرف في ظل أزمة شح الدولارات في الأسواق، ولتمويل التحويلات إلى الخارج عبر عرض الدولار بسعر الصرف الرسمي من أجل إجراء هذه العمليّات. ثم ذهب أبعد من لعبة الفوائد، عبر منح أرباح خياليّة للمصارف وكبار المودعين في إطار الهندسات الماليّة، مقابل توظيف المزيد من السيولة بالعملة الصعبة في مصرف لبنان. وهكذا، كان المصرف المركزي يراكم التزاماته بالعملات الأجنبيّة، في الوقت الذي كان يفرط فيه في تبديد الاحتياطات المتوفّرة لديه بهذه العملات بسياسة تثبيت قيمة الليرة.

ومع اشتداد أزمة ميزان المدفوعات لاحقًا، كان مصرف لبنان يتكبّد المزيد من الخسائر نتيجة تضخّم حجم التحويلات إلى الخارج، التي كانت تستنزف احتياطاته، وهو ما فاقم من الفارق بين ما يترتّب على النظام المصرفي من التزامات بالعملات الأجنبيّة وما يملكه من سيولة بهذه العملات. أما نتيجة هذه السياسة المتطرّفة في الدفاع عن سعر الصرف، فكانت الأزمة التي شهدها لبنان منذ العام 2019، والتي أدت إلى أزمة السيولة التي يشهدها اليوم النظام المصرفي اللبناني. في مقابل هذه السياسة، كان أردوغان منذ 2015 يصر على السياسة النقيضة تمامًا، وبتطرّف شديد جدًّا. أردوغان، صنّف نفسه منذ البداية كعدو تاريخي لمعدلات الفائدة المرتفعة، لأسباب عديدة تبدأ من نظرته الإيديولوجيّة السلبيّة اتجاه “الربا” بالمفهوم الإسلامي للكلمة، وتمر بأثر كلفة الفوائد على الأسر والشركات التركيّة، وصولًا إلى آثار الفوائد المرتفعة السلبيّة على النشاط الاستثماري العام في البلاد.

ولهذا السبب، قرر أردوغان منذ البداية مقاومة فكرة الإبقاء على معدلات الفائدة المرتفعة، ولو كانت كلفة هذا الإجراء نزوح المزيد من الرساميل إلى الخارج، والتسبب بالمزيد من الانخفاض في سعر صرف الليرة التركية، وهذا ما حصل فعلًا منذ 2015. مع العلم أن رفع الفوائد يمثّل في العادة أحد أدوات السياسة النقديّة التي يمكن اللجوء إليها في حالات نزوح الرساميل إلى الخارج، لمحاولة زيادة جاذبيّة النظام المالي المحلّي لهذه الرساميل. كما يمثّل رفع معدلات الفوائد إحدى وسائل امتصاص الكتلة النقديّة بالعملة المحليّة من السوق إلى النظام المصرفي، للحد من تدهور سعر الصرف.

لا يحتاج المرء إلى كثير من التحليل ليستنتج أن سلامة خسر رهانه، ففي النتيجة لم يفلح بالحفاظ على سعر صرف العملة المحليّة بعد العام 2019، لا بل أدى الانهيار المالي الشامل إلى تدهور سعر صرف الليرة إلى الحد الذي وضع البلاد في مرحلة التضخّم المفرط. في المقابل، يبدو أردوغان حتّى اللحظة مقتنعًا بصوابيّة رهاناته، بالرغم من كل التراجع الذي لحق خلال السنوات الماضية بقيمة الليرة التركيّة. بالتأكيد، ثمّة علاقة واضحة بين سياسة أردوغان النقديّة والتراجع الذي أصاب قيمة عملة تركيا المحليّة، وهذا ما يشير إليه خصوم أردوغان عند حديثهم عن سياساته غير التقليديّة. لكن لإنصاف الرجل، لا يمكن الحكم على نتيجة هذه السياسة قبل ترقّب آثارها على المدى البعيد، وتحديدًا من ناحية تداعياتها على القطاعات المنتجة وفرص العمل ونسب النمو الاقتصادي. وفي كل الحالات، كان من الواضح أن هذه السياسة غير المألوفة وإن تطرّفت في موضوع الفوائد وسعر الصرف، نجحت في تحييد النظام المصرفي التركي عن سيناريوهات الانهيارات الكبرى، كما حصل في لبنان نتيجة الأزمة التي تعيشها البلاد.

مصدرالمدن - علي نور الدين
المادة السابقةدولار الكازينو على سعر المنصة.. والشاليهات تهزم الفنادق
المقالة القادمةاستئناف مشروع قطار «إسلام أباد ــــ طهران ــــ إسطنبول»