إعتبرت وزارة المالية في فذلكة الموازنة التي ارسلتها الى مجلس النواب في 25 تشرين الأول المنصرم أنها إستكمالاً لمسيرة التصحيح والإصلاح المالي وفق المهل الدستورية، رغم العقبات التي تواجه الإدارات العامة ولا سيما وزارة المالية من استنزاف الطاقات البشرية والشحّ في الإمكانيات التكنولوحية والإدارية المتاحة… يهدف هذا المشروع الى تخفيض عجز الخزينة بزيادة الإيرادات المتأتية من تعزيز تحصيل الضرائب والرسوم، والتي بدورها أتت بشكل اساس من توحيد سعر الصرف، ومن تحديد أولويات للإنفاق استناداً الى معايير مالية واجتماعية موضوعية ودقيقة مع مراعاة الواقع الإقتصادي الهشّ والتطورات التي قد تعصف في المنطقة.
زيادة الإيرادات ضرورة
وجاء في الفذلكة أن تخفيض العجز ينعكس إيجاباً على الإستقرار المالي والنقدي. كما أن زيادة الإيرادات ضرورة أساسية لتأمين استدامة القطاع العام وتفعيل إداراته ومؤسساته وصولاً الى تطويره وإصلاحه وتصحيح الرتب والرواتب بطريقة مجدية في المدى المنظور، والى توفير الخدمات للمواطنين بفعالية وإعادة بناء اقتصاد فعال وتمكين العدالة الإجتماعية ومساندة الفئات المهمشة من خلال تعزيز الإنفاق الإجتماعي. وعليه يجب العمل بشكل فوري وطارئ للحفاظ على الإمكانيات في الإدارة الضريبية والجمارك لتأمين الموارد اللازمة لاستدامة القطاع العام.
إستعادة القدرة التمويلية
وأشارت الفذلكة الى ان استعادة القدرة التمويلية من شأنها المحافظة على الإستقرار المالي والنقدي. فالقدرة التمويلية هي الركيزة الأساس للاستقرار المالي والنقدي. والعنصر الأهم لاستدامة القطاع العام والحفاظ على الإدارات والمؤسسات بهدف توفير الخدمات العامة للمواطنين وإعادة بناء اقتصاد فعّال.
وتحقيقاً لذلك يبقى تعزيز الواردات وتخفيض النفقات غير المجدية من خلال المواد التصحيحية المقترحة في مشروع موازنة 2024 الوسيلة الفضلى لدعم ما وصلنا اليه من استقرار وإمكانية استمراره مع الأخذ بعين الإعتبار الظروف الصعبة التي تمرّ بها البلاد. خصوصاً في غياب أي مصادر تمويلية من خلال الأسواق المالية والمصادر الخارجية أو اللجوء من جديد الى التمويل من قبل المصرف المركزي واستنزاف الإحتياطي بالعملات الأجنبية.
تمكين الإستقرار النقدي
وأتت الفذلكة على تعزيز إدارة السيولة التي تساهم ايضاً في تمكين الإستقرار النقدي. اذ أنه الى جانب تعزيز الواردات فالإجراءات المتّخذة بالتنسيق مع السلطات النقدية منذ بداية العام في ما يخص تحصيل بعض الرسوم والضرائب نقداً، ساهم بشكل ملحوظ في ضبط السيولة (أي النقد بالتداول) ومساندة السلطات النقدية في تعزيز الإحتياطي بالعملات الأجنبية وتحفيز الإستقرار المالي والنقدي وتامين دفع نفقات الدولة المتوجبة بالعملة الأجنبية.
وفي ما يتعلق بتعزيز الواردات والإلتزام الضريبي باعتبارهما حجر الأساس للتعافي المالي، اعتبرت الفذلكة أن بعض الإجراءات التصحيحة التي أقرّت في موازنة 2022 وخصوصاً رفع سعر الصرف والقرارات الصادرة عن وزارة المال على خلفية إقرار الموازنة أدت الى تعزيز الواردات المرتقبة لعام 2023 الى نحو 14% من الناتج المحلي بعدما كانت مقدرة بنحو 6% للعام 2022.
تكييف الرسوم والضرائب
وشرحت الفذلكة كيف ان استكمال المسار التصحيحي من خلال الاجراءات المقترحة في مشروع موازنة 2024، من شأنه تعزيز الواردات بشكل فعّال أكثر واستعادة الموارد، خصوصاً من خلال تكييف الرسوم والضرائب والتراخيص بنسبة محدودة مع معدلات التضخّم indexation وتصحيح قيمها التي أصبحت زهيدة في ظلّ تدهور سعر الصرف (مثلاً بعض الرسوم المستوفاة لقاء خدمة ما، أصبحت من دون كلفة الخدمة المقدّمة ما يدعو الى تصحيحها)، ما سيدرّ واردات إضافية من المتوقّع أن يشكّل مجموعها نسبة 17% من الناتج المحلي في العام 2024. وذلك ما يمكّن قدرات الخزينة من تمويل احتياجات القطاع لعام وتعزيز الإستقرار المالي والنقدي (للمقارنة، إن مجمل الواردات كانت تشكّل نسبة 20% من الناتج المحلّي كمعدّل وسطي للسنوات الأخيرة ما قبل الأزمة).
الظروف صعبة
واضافت: السلطات المالية لا تسعى الى فرض عبء ضريبي يذكر على كاهل المواطن نظراً الى الظروف الإقتصادية والمعيشية الصعبة رغم انخفاض هذا العبء من نسبة 16% من الناتج المحلي كمعدل وسطي للسنوات الأخيرة ما قبل الأزمة الى نسبة 4% في 2022، جرّاء الأثر السلبي للتضخّم وتعدّد اسعار الصرف من جهة ومدى عدم الإلتزام الضريبي من جهة اخرى. وعلى هذا الأساس سعت الحكومة الى تحسين إيرادات الدولة بشكل ملحوظ على المدى المتوسّط من خلال تفعيل الإلتزام الضريبي الذي يبقى اليوم من أهم الخطوات التصحيحية التي تسعى اليها السلطات المالية، والتي من شأنها استعادة الإدارة الضريبية لدورها الفعّال وجعل مؤسسات الدولة قادرة على تخطّي الأزمات في ظلّ تمادي الإقتصاد النقدي cash economy والإقتصاد غير المنظّم informal economy إضافة الى ضبط الحدود والتهريب ومحاربة الفساد.
تحذير من تأخير الإقرار
واكدت ان تأخر الشروع بالإصلاحات عامل سلبي في مسيرة التعافي ويحمّل المواطن والإقتصاد كلفة باهظة.
فمواجهة أزمة بهذا الحجم يتطلّب سرعة التحرّك، فالتقلّبات المكرو إقتصادية تبقى حادة وسريعة، والتأخّر بأخذ الإجراءات الإصلاحية اللازمة له كلفة باهظة على الإقتصاد. إن التأخير في إقرار موازنة 2022 على سبيل المثال رتب خسائر على الخزينة ما أقلّه 10 الى 15 ألف مليار ليرة شهرياً، وهي إيرادات نحن بأشدّ الحاجة اليها، وكان من شانها السماح بتفادي الضغط التمويلي على المصرف المركزي، والتدهور في سعر الصرف وتفاقم نسب التضخّم (التي وصلت الى 264% كمعدّل خلال الأشهر التي تلت تمويل الأجورالمضاعفة من دون تفعيل الواردات المرتقبة في موازنة 2022). إن التضخّم والتدهور في سعر الصرف يرتّبان اعباء اضافية على المواطن ويؤثّران سلباً على مسيرة التعافي والنمو.
كما وأن التأخير في اقرار الإعتمادات اللازمة في ظلّ التقلّبات الحادة في سعر الصرف، ارغم الحكومة على السير بالعمل بإقرار سلف خزينة خلال العامين المنصرمين، لتسيير المرفق العام ما يمسّ في عملية ضبط العجز وحسن الإنتظام المالي.
إصلاحات متوسّطة المدى
واضافت: يأتي مشروع موازنة 2024 ضمن خطة الإصلاح الإقتصادي والمالي والمؤسسي للحكومة على المدى المتوسّط (2024-2027). وتهدف هذه الخطة الى تعزيز النمو وتنشيط الإقتصاد من خلال تدابير مؤسسية ومالية وتصحيحية لوضع لبنان على سكة التعافي ولتفعيل النمو وخلق فرص عمل للجميع، ولا سيما الشباب الذي يدخل سوق العمل بأعداد كبيرة، واحتواء شبح الهجرة.
إن الحالة المأسوية للمالية العامة التي تم تجاهلها لسنوات غدت عائقاً أساسياً أمام التنمية، وقوّضت القدرة على مواجهة الصدمات المالية والنقدية والمصرفية التي عصفت بلبنان خلال الأربع سنوات الماضية وأدّت الى محو النمو الذي تم تحقيقه خلال الـ15 عاماً السابقة.
تذكير بالأساسيات
واوضحت انه في ظلّ الأزمات المتلاحقة التي لم يشهد لبنان مثيلاً لها في تاريخه الحديث، يتوقّع المواطنون سياسات مالية إنقاذية تحفّز الإقتصاد وتصحح توازنات الدخل والقدرة الشرائية، وتحدّ من نزيف الكفاءات المهاجرة وترتكز هذه السياسات على المبادئ الأساسية التالية:
– القطاع العام له دور حصري في إقامة وتنفيذ نظام قانوني وتنظيمي وضريبي فعّال في إطار قضائي عادل وجهاز رقابي قويّ ومستقلّ.
– القطاع الخاص هو المحرّك الرئيسي للإقتصاد، تعزّز وتحمي دوره الدولة في إطار تنافسي وتحرّره من هيمنة الإحتكارات عبر قوانين تضمن نزاهة الأسواق وفعّاليتها وحماية المستهلك والمستثمر على حدّ سواء.
– يمكن للمعرفة أن تكون من ركائز الإقتصاد الوطني المبني على القدرات البشرية المتاحة في موقع جغرافي فريد. فرغم تفاقم هجرة العناصر البشرية في الفترة الأخيرة لا زال لبنان يتمتع بموارد بشرية وافرة ليصبح مركزاً مهماً لأنشطة ذات قيمة مضافة عالية مثل المعلوماتية والدراسات والخدمات الهندسية والمحاسبة والترجمة والإعلام والتسويق والإنتاج الفنّي، الى جانب القطاعات التقليدية التي أرسى لبنان فيها موقعه من سياحية وصناعية وزراعية وتجارية.
معالجة العوائق الهيكلية
وتناولت الفذلكة ضرورة تمكين القطاع الخاص من الإستثمار وخلق فرص عمل في القطاعات الإنتاجية والخدماتية الذي يتطلّب حوافز موجّهة بما فيها الضريبية، وخصوصاً تنفيذ إصلاحات للتغلّب على العوائق الهيكلية التي تعيق النمو منذ عقود منها:
– تطوير البنية التحتية المتدهورة لتلبية إحتياجات لبنان من الكهرباء والمياه والنقل والإتصالات وتكنولوجيا المعلومات بأسعار مناسبة للدخل مع تشجيع مشاركة القطاع الخاص لضمان استدامة الخدمات وجودتها.
– سنّ التشريعات والإجراءات للحد من التدهور البيئي مع المحافظة على التراث الحضاري والمعماري للبنان.
– توفير بيئة إستثمارية تشجّع على الإستثمار الأجنبي المباشر للإستفادة من الخبرات التقنية والعملية التي تواكب هذا الإستثمار.
– تعزيز حركة الصادرات وحركة السياحة وتسويق لبنان كوجهة للسياحة المتنوّعة مما يحسّن ميزان المدفوعات من خلال تقليص العجز التجاري.