“المركزي السوري” بعد سقوط النظام: إدارة النقد الأجنبي أولوية

في ظل التحديات الاقتصادية العميقة التي تواجهها سوريا، وفي أعقاب سقوط النظام السوري وما رافقه من عمليات تهريب ممنهجة للعملات الأجنبية خلال السنوات الماضية، اتخذ مصرف سورية المركزي أولى خطواته الجريئة نحو ضبط وتنظيم حركة القطع الأجنبي. القراران الجديدان، رقم 1683/ل و1684/ل، الصادرين خلال الشهر الجاري، يمثلان تحولًا في توجه المصرف المركزي، حيث ألغيا بعض الآليات السابقة، وعلى رأسها “المنصة الإلكترونية”، واستبدلاها بحلول أكثر مرونة وفعالية. تهدف هذه الإجراءات إلى تعزيز استقرار الأسواق، إعادة هيكلة منظومة تمويل الاستيراد والتصدير، وتحسين بيئة الأعمال بما يضمن تعزيز الاحتياطي النقدي الأجنبي وقدرة الدولة على مواجهة التحديات الاقتصادية الراهنة.

إلغاء المنصة الإلكترونية وتبني آليات جديدة

جاء القرار رقم 1683/ل ليُلغي العمل بالمنصة الإلكترونية الخاصة بتسجيل طلبات تمويل المستوردات وتثبيت سعر بيع القطع الأجنبي. رغم أهدافها النظرية الإيجابية، إلا أن المنصة عانت من بيروقراطية معقدة وتأخير زمني أضر بتدفق المواد المستوردة للأسواق، كما فرضت مركزية مشددة أضعفت مرونة الإجراءات.

مع إلغاء المنصة، أصبحت الآلية الجديدة تعتمد على التنسيق المباشر بين المصارف وشركات الصرافة والمستوردين، حيث أُنيطت المسؤولية الرئيسية بالمصارف العاملة وشركات الصرافة للتدقيق على وثائق التمويل والتحقق من مصادر القطع الأجنبي. هذا التوجه يُسهم في تعزيز الشفافية ويكافح التلاعب والتهريب، بالإضافة إلى الانتقال من المركزية إلى اللامركزية، والاهم أعتماد النهج القائم على المخاطر- Risk-Based Approach.

ضبط عائدات التصدير ودعم الاحتياطي النقدي

أما القرار 1684/ل، فقد وضع آليات لإعادة عائدات القطع الأجنبي الناتجة عن التصدير إلى النظام المصرفي السوري ضمن مهلة زمنية محددة. القرار فرض عقوبات صارمة على المخالفين، بما يشمل الملاحقة القانونية ومصادرة الأموال، في خطوة تهدف إلى الحد من عمليات تهريب العملات الأجنبية وضمان تدفق النقد الأجنبي نحو خزينة الدولة لدعم الاحتياطي وتعزيز استقرار سعر الصرف.

من خلال هذه الإجراءات، أصبح على المصدرين الالتزام بإطار قانوني واضح يوازن بين تشجيع التصدير كقطاع حيوي للاقتصاد الوطني وضمان استفادة الدولة من عائداته النقدية عبر القنوات النظامية، مما يساهم في دعم تمويل المستوردات الضرورية وتحقيق استقرار في أسعار السلع الأساسية في المدى المنظور.

السياق القانوني والاقتصادي للقرارات

إن إصدار القرارين رقم 1683/ل و1684/ل عن مصرف سورية المركزي يُشكّل نقطة تحوّل جوهرية في إطار الحوكمة الاقتصادية في سورية بعد سقوط النظام. هذه القرارات، التي تعيد تعريف آليات إدارة القطع الأجنبي وتمويل التجارة، تحمل في طيّاتها أبعادًا قانونية واقتصادية مستقبلية. فهي تعكس من ناحية المرونة التي تفرضها الظروف الراهنة، ومن ناحية أخرى تُمهّد الطريق لإصلاح نقدي وتحمل في طياتها أحتمال تعديل نظام سعر الصرف. بمعنى، أن هذه القرارات صدرت في ظل أحكام المرسومين التشريعيين رقم 5 و 6 لعام 2024، واللذين يُجرّمان التعامل بالقطع الأجنبي أو تداوله خارج القنوات المصرفية المرخصة، مع ذلك، جاءت القرارات الجديدة لتعكس تحولًا ملحوظًا ولو بشكل غير مباشر، من سياسة قائمة على المنع المطلق إلى سياسة أكثر مرونة وتنظيمًا. بالرغم من الفرق بين تداول النقد الاجنبي وتمويل للاستيراد والتصدير بالنقد الاجنبي.

من المهم التمييز هنا بين التداول وتمويل التجارة بالقطع الأجنبي، اذ ان التداول يُحظر على الأفراد والشركات استخدام الدولار كوسيلة دفع داخل سورية، وتُجرّم عمليات البيع والشراء بالقطع الأجنبي في السوق المحلية. في حين، القرارات الجديدة تُتيح للتجار استخدام القطع الأجنبي، بشرط أن يتم عبر قنوات نظامية فقط (المصارف أو شركات الصرافة المرخصة)، والهدف من ذلك هو توجيه القطع الأجنبي المتاح نحو تمويل الواردات الضرورية، بعيدًا عن التداول الداخلي.

يُتيح القرار رقم 1683/ل السماح باستخدام القطع الأجنبي، بغض النظر عن مصدره، للتجار ضمن عملية تمويل مستورداتهم بالقطع الأجنبي من أي مصدر خارجي، بشرط أن يتم عبر القنوات النظامية (المصارف المرخصة وشركات الصرافة). هذه النقلة النوعية تُظهر اعترافًا بضرورة التعامل مع الواقع الاقتصادي من جهة، مع والحفاظ على الرقابة التنظيمية من جهة أخرى. في حين يُركّز القرار رقم 1684/ل على إعادة عائدات التصدير إلى النظام المصرفي، وهو إجراء حيوي لدعم الاحتياطي النقدي.

فمن منظور قانوني، تعكس القرارات الجديدة نهجًا متوازنًا بين القيود التشريعية والمرونة التنظيمية لمصرف سوريا المركزي.

نقل العبء وتوزيع المسؤوليات

من أبرز مميزات القرارات الجديدة هو إعادة توزيع المسؤوليات؛ فبدلًا من تحميل المصرف المركزي عبء الإشراف المباشر على كل تفاصيل التمويل، أصبحت المصارف وشركات الصرافة خط الدفاع الأول ضد أي تجاوزات.

فالمصارف باتت مسؤولة عن التدقيق والتحقق من مصادر القطع الأجنبي ومطابقة الوثائق المقدمة. وشركات الصرافة أصبحت ملتزمة بتنفيذ عمليات التمويل وفق الضوابط المحددة ورفع التقارير اللازمة للمصرف المركزي. هذا النقل للمسؤوليات لا يخفف العبء عن المصرف المركزي فحسب، بل يضمن فعالية أكبر في تطبيق الإجراءات من خلال الجهات المعنية بشكل مباشر بتمويل التجارة.

الاستقرار الاقتصادي ودعم التجارة

إن الغاية الأساسية التي يسعى إليها مصرف سورية المركزي من خلال هذه القرارات هي تحقيق الاستقرار الاقتصادي وتعزيز قدرة الاقتصاد على الصمود أمام التحديات. فإعادة هيكلة منظومة تمويل المستوردات وضبط عائدات التصدير تُسهم في:

ضمان توافر القطع الأجنبي اللازم لتمويل المواد الأساسية.

تحفيز الإنتاج المحلي عبر تسهيل تمويل مستلزمات الإنتاج من عائدات التصدير.
زيادة الاحتياطي الأجنبي، مما يعزز قدرة الدولة على مواجهة التقلبات الاقتصادية.
الحد من التهريب والتلاعب من خلال فرض رقابة صارمة وعقوبات رادعة للمخالفين.
انعكاس ذلك على حركة الاستيراد والتصدير سيكون ملموسًا في المدى القريب؛ حيث ستشهد الأسواق استقرارًا في تدفق السلع الأساسية وانخفاضًا في التكاليف المرتبطة بالتمويل. من ناحية أخرى، سيؤدي ضبط الصادرات إلى ضمان الاستفادة من العائدات النقدية لدعم الاحتياطي الأجنبي وتعزيز استقرار سعر الصرف.

تبيان الاختلافات الجوهرية بين القرار 970، القرار 1130، والآلية الجديدة 1683

العنصر

القرار 970/ل.إ

القرار 1130/ل.إ

الآلية الجديدة (1683/ل)

طريقة التنفيذ

إنشاء منصة مركزية لتسجيل طلبات تمويل المستوردات.

 الاعتماد على المنصة مع تحسين الإجراءات.

إلغاء المنصة والعودة إلى إجراءات مباشرة بين المصارف وشركات الصرافة.

مصادر التمويل

حصر التمويل بالمصادر المصرّح عنها (حسابات المصارف فقط).

السماح بالتمويل عبر المصارف وشركات الصرافة، مع تحديد دقيق للمصادر.

بغض النظر عن مصدر القطع الأجنبي“، بشرط عبوره عبر القنوات النظامية.

السرعة والمرونة

مهل زمنية طويلة ومعقدة تصل إلى 150  يومًا.

تخفيف المهل لبعض السلع، ولكن ظلت القيود الزمنية قائمة.

إلغاء المهل الزمنية بالكامل واعتماد تمويل فوري مبني على تدقيق الوثائق.

دور المصارف

دور محدود في المراقبة؛ الاعتماد الكلي على المنصة الإلكترونية.

دور رقابي محدود مع استمرار المركزية عبر المنصة.

دور محوري للمصارف في التدقيق، التنفيذ، والإبلاغ عن المخالفات.

الشفافية والرقابة

غياب الرقابة الكاملة، مما أدى إلى حالات تلاعب وتهريب.

تحسن جزئي في الرقابة مع فرض توثيق إضافي للفواتير.

تدقيق مباشر على الوثائق والمصادر، مما يُعزز الشفافية والرقابة الصارمة.

العقوبات

تسويات مالية فقط دون إجراءات تنفيذية صارمة.

فرض تسويات وغرامات مالية، مع إلزام شركات الصرافة بالإبلاغ.

عقوبات مشددة تشمل مصادرة المبالغ، الملاحقة القانونية، والتنفيذ الفوري.

الهدف الأساسي

ضبط السوق عبر آلية مركزية؛ تطبيق صارم دون مرونة.

تحسين المنصة لتسهيل العمليات ولكن بقيت القيود.

دعم المرونة في تمويل المستوردات مع تعزيز الضوابط والرقابة المباشرة.

ومما لا شك فيه، أن أحد أهداف لجنة ادارة مصرف سورية المركزى من القرارين المذكورين هو أعادة تكوين مصرف سورية المركزي لمحفظة احتياطياته الرسمية من الموجودات بالعملات الأجنبية، وهذا أمر أساسي لأي عملية مستقبلية تتعلق بتداول النقد الورقي سواء لجهة أصداره أو استبداله او سحبه، كما تنعكس ايجايباً على أقتصاد سوريا الجديد والاستقرار النقدي، وإعادة الاندماج مع النظام الاقتصادي العالمي، بعد سنوات من القيود لأجل حصر العائدات من العملات الأجنبية لصالح النظام والانفتاح على العالم.

بالمحصلة، يُعتبر القراران، رقم 1683/ل و1684/ل خطوة إيجابية نحو إصلاح منظومة التمويل التجاري والنقدي في سوريا، من خلال إلغاء المنصة الإلكترونية وتبني آليات مرنة أكثر فاعلية، يحقق مصرف سورية المركزي توازنًا بين تسهيل تمويل الاستيراد والتصدير وبين ضبط حركة القطع الأجنبي. ومع التركيز على الرقابة الفعّالة وإعادة توزيع المسؤوليات، تبدو هذه الإجراءات خطوة واعدة نحو تحقيق الاستقرار الاقتصادي وبناء أرضية صلبة لمرحلة التعافي الاقتصادي المقبلة.

مصدرالمدن - مهدي الحسيني
المادة السابقةإنفوغراف أصول المصارف العربية… ماذا عن لبنان؟
المقالة القادمةارتفاع أسعار المحروقات