لن ينعكس المسار التصاعدي للدولار إلا مع بدء العلاج بالإصلاحات الجدية. فـ”الرشوش” التي توضع على “جرح” الانهيار النقدي، لن توقف النزيف مهما أُكثر منها. وعلى الرغم من كلفتها الهائلة بالمقارنة مع جدواها، يستمر “المركزي” في استعالمها بضغط من القوى السياسية لتلافي “تقطيب” الهدر والفساد، واستمرار الهروب من المحاسبة إلى الامام.
يقال: “من جرّب مجرَّب كان عقلو مخرّب”، فكيف إذا كان المُجرِّب الذي يحاول لجم سعر الصرف بالتدخل بسوق القطع، “محنّكاً” خَبِر كل أشكال الهندسات المالية ونتائجها! الأمر الذي يقود إلى الاستنتاج أن ما يجري ما هو إلا “هدايا” للطبقة السياسية بكلفة ناهزت 4.1 مليارات دولار لفترة لا تتعدى 5 أشهر ونصف الشهر. وذلك إذا انطلقنا مما صرح به نائب رئيس الحكومة سعادة الشامي، بأن “كلفة التدخل اليومي من المركزي تبلغ 25 مليون دولار وتدفع من الاحتياطي”.
هدايا من جيوب المودعين
الهدية الاولى قدمها حاكم المصرف المركزي للرئيس ميقاتي في منتصف كانون الاول من العام الماضي، بإصداره التعميم 161، وفتح سقوف تحويل الليرة إلى دولار، على أن تنتهي مفاعيله بعد إقرار خطة التعافي وتحوّل الحكومة إلى تصريف الاعمال.
الهدية الثانية قدمها للرئيس نبيه بري قبل 4 أيام على إعادة انتخابه، وتمثلت بإعادة ضخ الحياة بالتعميم 161 بعدما فقد جدواه، وذلك من أجل منع فلتان الشارع على وقع تحليق الدولار قبل التجديد له لولاية سابعة على رأس البرلمان.
أما الهدية الثالثة فهي مستمرة منذ بدء الازمة أو حتى ما قبل اندلاعها، ولغاية نهاية العهد الحالي، وتهدف للسيطرة على سعر الصرف بأي ثمن كان، منعاً للانهيار الشامل.
الرهان الخاطئ
القراءة بين سطور بيانات ومواقف “المركزي” وحاكمه، ومن يدور في فلكه تدفع للاستنتاج بحسب الخبير الاقتصادي د. محمد فحيلي أن “مصرف لبنان يعتبر أن ما سيدفعه اليوم سيعوضه غداً، خصوصاً إذا تشكلت حكومة في وقت سريع ووقعت الاتفاق مع صندوق النقد الدولي الذي يؤمن 3 مليارات دولار”. وبحسب فحيلي فان “المركزي يراهن على تدفق نحو 4.4 مليارات دولار من عوائد السياحة هذا الصيف، وحوالى 6.6 مليارات دولار من تحويلات المغتربين. هذه المبالغ إذا ما جمعت مع ما بحوزته من توظيفات الزامية بقيمة 10 مليارات دولار، ونحو 1 مليار دولار من حقوق السحب الخاصة، وما يُحمل من الخارج بالجيوب، وما هو موجود في خزنات البيوت… تستطيع أن تمتص سلبيات ضخه الدولار”.
عجز الميزانين يدحض التفاؤل
إلا أنه في المقابل، فان ما يدخل من دولارات إلى الاقتصاد يجب أن يقارن مع ما يخرج على الاستيراد أولاً، ومع استمرار العجز في ميزان المدفوعات ثانياً. ففي حين تخطى عجز ميزان المدفوعات 2 مليار دولار في العام 2021، تجاوز العجز في الميزان التجاري 9 مليارات دولار. حيث استورد لبنان بحسب أرقام الجمارك سلعاً وبضائع بقيمة 13.8 مليار دولار. وعلى الرغم من عدم صدور إحصاءات التجارة الخارجية عن الفصل الاول من العام الحالي، يمكن الاستنتاج أن فاتوة الاستيراد سترتفع هذا العام ولن تنخفض. حيث تضاعفت رواتب العاملين في القطاعين العام والخاص نتيجة إقرار مرسوم بدل غلاء المعيشة للمستخدمين والعمال الخاضعين لقانون العمل، واعطاء موظفي القطاع العام مساعدات غلاء المعيشة بمراسيم رئاسية. يضاف اليهما الارتفاع الكبير في اسعار المشتقات النفطية والحبوب نتيجة الحرب الاوكرانية. وعلى هذا الاساس فان “الوقائع التي يرتكز عليها مصرف لبنان لتدخّله وحماية الليرة، وهمية وليست حقيقية، وهي خارج قدرته، ولن تعوض ما يخسره لبنان من دولارات”، بحسب فحيلي، و”يصح بها وصف الفلتان النقدي وليست سياسة نقدية”.
كل جديد وله رهجة
“التدخل بمنصة صيرفة لتخفيض سعر الصرف من خلال التعميم 161 فعل فعلته في المرة الأولى على أساس أن “كل جديد وله رهجته”. ولكنه فشل في المرة الثانية بعد صدور بيان “المركزي” الاخير الذي يذكر بضرورة الالتزام بتحويل الليرة إلى دولار من دون سقوف، و”صار بدو دفشة”. فبعد انخفاض الدولار إلى حدود 27 ألف ليرة في عطلة نهاية الاسبوع الفائت عاد ليرتفع متجاوزاً 31500 ليرة. بالاضافة إلى قراءة السوق الصحيحة لنوايا مصرف لبنان، فلقد خبر المتعاملون استنسابية المصارف في تطبيق التعاميم وعجزها لوجستياً عن مواكبة قرارات المركزي”، بحسب فحيلي. وكون البنوك أصبحت عاجزة عن تحقيق الارباح من العمل الطبيعي “لجأت إلى فرض العمولات “يمنة ويسرة” على الايداع والسحب. وبعضها فرض وضع 10 في المئة من الدولار بحساب الفريش، أو احتجاز جزء من الليرات في حساب البطاقة، أي لاستعماله في المشتريات… وغيرها الكثير من الارتجالات التي خففت الزخم والرغبة عند جمهور عملائها بالاستفادة من تعميم “المركزي”. وبالتالي انطفأ وهج شراء العملة الصعبة وبيعها بالسوق بالمبالغ التي راهن عليها مصرف لبنان. وبقيت الاستفادة محصورة بمن يملك الليرات من مضاربين أو حتى المصرف المركزي نفسه، الذي يراكم الليرات في خزائنه”.
إستنفاد التوظيفات
إنطلاقاً مما تقدم، واستناداً إلى تصريح نائب رئيس الحكومة سعادة الشامي “من غير المستبعد أن نصحو في وقت قريب على اعتراف مصرف لبنان باستنفاد التوظيفات الإلزامية، تحت حجة الحفاظ على عدم انهيار الليرة أكثر”، تقول عضو “رابطة المودعين” المحامية دينا أبو الزور. “مع العلم أن “المركزي” يستنزف الاحتياطي لخدمة مصالحه بالتواطؤ مع بعض الصرافين والمضاربين. والدليل هو التلاعب الذي يحصل في سعر الصرف الذي لا يستفيد منه فعلياً إلا القلة التي عمدت إلى بيع الدولار على سعر مرتفع، وعادت لتشتريه على المنصة بسعر 24 ألف ليرة. فنحن فعلياً أمام مجموعات تحقق الثروات ليس فقط على حساب ما تبقى من حقوق المودعين المحتجزة في مصرف لبنان، إنما أيضاً من رفع الاسعار وعدم تخفيضها عند تراجع سعر صرف الدولار”.
سياسة مصرف لبنان التي يصورها البعض على أنها الضامن لعدم ارتفاع الدولار أكثر، ما هي في الحقيقة إلا المحفز لارتفاعات كمية ونوعية في المستقبل القريب. فمع خفوت وهج التعميم 161 ارتفع الدولار إلى 37 ألف ليرة ولم ينخفض تحت سقف 32 ألفاً رغم كل التدخلات. وعليه فان الارتفاع القادم سيتخطى 45 أو حتى 50 ألف ليرة بسهولة”.