يركز المحللون والمستثمرون على نقطة مهمة في العلاقة بين أكبر قوتين اقتصاديتين لتنفيس التجارة العالمية تتعلق بكيفية التعاطي مع هذا الملف بشكل مرن والذي لا يعني التنازل بقدر ما يعني القدرة على التكيّف واحتواء الخلافات وفتح قنوات للحوار البنّاء، بما يسهم في امتصاص عدد لا يحصى من الأزمات المتشابكة.
سعت الولايات المتحدة والصين خلال مفاوضات ماراثونية على مدار يومين في جنيف للخروج مما يصفه المحللون بأنه وضع خاسر لاقتصاديهما، دون وضوح كبير حول شكل الفوز الذي قد يحققه أي من الجانبين.
وتقع الصين في قلب الحرب التجارية العالمية التي يشنها الرئيس الأميركي دونالد ترامب، والتي هزت الأسواق المالية، وزعزعت سلاسل التوريد، وغذّت مخاطر تباطؤ اقتصادي عالمي حاد.
وتريد واشنطن خفض عجزها التجاري مع بكين وإقناع الصين بالتخلي عما تصفه إدارة ترامب بالنموذج الاقتصادي التجاري، والمساهمة بشكل أكبر في الاستهلاك العالمي، وهو ما يعني، من بين أمور أخرى، إصلاحات محلية مؤلمة.
وتقاوم بكين أي تدخل خارجي في مسارها التنموي، إذ ترى أن التقدم الصناعي والتكنولوجي ضروري لتجنب فخ الدخل المتوسط. وتريد من واشنطن إلغاء الرسوم الجمركية، وتحديد ما تريد أن تشتريه الصين أكثر، وأن تُعامل على قدم المساواة على الساحة العالمية.
ويبدو الطرفان أكثر تباعدًا بكثير، وأكثر عرضة لخطر التداعيات الكبيرة مما كان عليه الحال خلال حربهما التجارية الأولى في ولاية ترامب السابقة.
وفي الوقت الذي التقى فيه وزير الخزانة الأميركي سكوت بيسنت وكبير المفاوضين التجاريين جيميسون جرير مع القيصر الاقتصادي الصيني هي ليفينغ في سويسرا، يقول المحللون إن أي نتيجة من هذه النتائج لا تبدو واقعية.
وقال الخبير الاقتصادي في سيتي غروب ناثان شيتس لوكالة فرانس برس “تعكس هذه المفاوضات حقيقة أن وضع العلاقات التجارية، مع هذه الرسوم المفروضة، ليس في صالح الولايات المتحدة، ولا في صالح الصين.”
والرسوم الجمركية الثنائية، ذات الأرقام الثلاثية، ليست نقطة التوتر الوحيدة في المحدثات التي استمرت يومين، واعتبرها وزير التجارة الأميركي هوارد لوتنيك الأحد أنها تهدف إلى “تهدئة” التوتر بين القوتين العظميين، وتوقع إبرام العديد من الاتفاقيات التجارية خلال الأشهر القليلة المقبلة دون تسمية دول بعينها.
ومن المرجح أن تُعقّد القضايا غير التجارية، مثل الفنتانيل والقيود التقنية والأوضاع الجيوسياسية، بما في ذلك الحرب في أوكرانيا، مسار أي حلٍّ للصراع التجاري الذي يُعطّل الاقتصاد العالمي.
وفي الواقع، وفي مؤشرٍ على مدى تداخل القضايا غير الجمركية، تُرسل الصين مسؤولاً رفيع المستوى في الأمن العام إلى المحادثات، وفقًا لمصدر مُطّلع على الخطط.
وقال سكوت كينيدي، الخبير في شؤون الأعمال الصينية في مركز الدراسات الإستراتيجية والدولية في واشنطن، لرويترز “لن يحلّوا أي شيء هذا الأسبوع، سوى محاولة تحديد ما إذا كانت ستكون هناك عملية، وما هي بنود جدول الأعمال.”
وأفضل سيناريو للأسواق المالية في هذه المرحلة المُبكرة هو الاتفاق على خفض الرسوم الجمركية من نسبة تتجاوز 100 في المئة.
وهذا المستوى تُعتبره الأسواق على نطاق واسع بمثابة حظر تجاري إلى مستويات تسمح بتدفق المنتجات في كلا الاتجاهين، مع فرض ضرائب باهظة على الشركات الأميركية والصينية.
وأشار ترامب، الذي كشف عن تفاصيل اتفاقية تجارية جديدة بين بلده وبريطانيا، إلى احتمال خفض الرسوم البالغة 145 في المئة على بكين، وطرح الجمعة رقمًا بديلًا لأول مرة، قائلًا على منصته للتواصل الاجتماعي إن 80 في المئة “يبدو صحيحا.”
وحتى هذا الرقم أعلى بعشرين نقطة مئوية من المستوى الذي تعهد به خلال حملته الانتخابية في العام الماضي بفرض رسوم على البضائع الصينية، ولم يتضح بعد كيف سيستقبله الفريق الصيني، إذا عُرض من قِبل فريقه التفاوضي خلال عطلة نهاية الأسبوع.
ويتوقع رايان هاس مدير مركز جون أل. ثورنتون للصين في معهد بروكينغز أن تُصرّ بكين على الحصول على نفس الإعفاء لمدة 90 يومًا من الرسوم الذي حصلت عليه الدول الأخرى لتهيئة ظروف مواتية للمفاوضات، لافتا إلى أن تحقيق اختراقات أمر مستبعد.
وبما أن قرار الولايات المتحدة تصعيد الرسوم اتُخذ بشكل تعسفي، فإن قرار تخفيفها يمكن أن يُتخذ بشكل تعسفي أيضًا.
ولا يتوقع معظم المحللين إعفاءً. لكن خفض الرسوم، مهما كان ضئيلًا، والتوصل إلى اتفاق على محادثات لاحقة قد تشمل في نهاية المطاف قضايا غير تجارية مثل الفنتانيل، سيظلان نتيجة إيجابية للمستثمرين.
وقال بو تشنغ يوان، الشريك في شركة بلينوم الاستشارية ومقرها شنغهاي، “إذا كانت هناك هدنة مؤقتة أو تراجع متكافئ للرسوم، فسيكون ذلك مُهيئًا لجهود تفاوض شاملة ومحتملة في المستقبل.”
وفي حين قد يتمكن أي من الجانبين من تصوير أي تراجع على أنه انتصار مبكر لجمهوره المحلي، فإنه من المرجح أن تبدأ المصانع الصينية وعمالها في الشعور بألم الرسوم الجمركية في الأشهر المقبلة، بينما يواجه الأميركيون ارتفاعًا في الأسعار وفي نسب البطالة.
وسيظل السبب الجذري للصراع قائمًا. ولن تُحل مشكلة بيئة التجارة العالمية غير المتوازنة، حيث تعتمد أغلب الاقتصادات في العالم بشكل كبير على الإنتاج الصيني ذي الكلفة المعقولة والفعالة من جانب العرض، وعلى المستهلكين الأميركيين الأثرياء لتلبية الطلب.
لكن الأسواق تشعر بالارتياح على الأقل حاليا لأن القوى العالمية الكبرى لديها فرصة للتراجع عن مسار التهديدات المتصاعدة التي خشي المستثمرون أن تمتد من التجارة إلى التمويل ومجالات أخرى.
وتتوقع لين سونغ، كبيرة الاقتصاديين في بنك آي.أن.جي لشؤون الصين الكبرى، أن يؤدي أي تخفيف للتصعيد إلى إعادة الرسوم الجمركية إلى حوالي 60 في المئة، بما يتماشى مع تعهدات ترامب قبل الانتخابات.
وقالت إن هذا “سيظل مرتفعًا بما يكفي لحظر العديد من المنتجات ذات البدائل المناسبة،” ولكنه أيضًا “مستوى يسمح للمستوردين بشراء منتجات دون بدائل وبكلفة أقل.”
وقبل محادثات السبت والأحد تعثرت أغلب الاستعدادات السرية بين الصين والولايات المتحدة بسبب الخلافات حول الفنتانيل، وأقدمية مسؤولي التفاوض، ونبرة الخطاب التي استخدمتها الولايات المتحدة، وفقًا لما ذكرته رويترز الجمعة.
وأدت التصريحات المتضاربة من الجانبين حول من تواصل مع من إلى المزيد من التشدد في خطاب بكين العام، حيث حذرت إحدى الصحف الرسمية من إمكانية حدوث “صراع طويل الأمد.”
ومع ذلك أشارت الصين الأسبوع الماضي عبر مدونة تابعة لوسائل الإعلام الرسمية إلى أن الدخول في محادثات “لا يضر في هذه المرحلة” وأن بكين يمكنها “استغلال هذه الفرصة لمراقبة، بل وحتى استخلاص، النوايا الحقيقية للولايات المتحدة.”
ويرى محللون أن محاولات بكين تصوير واشنطن على أنها الطرف الأكثر قلقًا وتعرضًا للضغوط، تمنحها غطاءً سياسيًا للدخول في محادثات، بالإضافة إلى إظهار قوتها محليًا.
وقال دبلوماسي مقيم في بكين لرويترز “لم نعد نراقب من يتراجع أولًا، بل كيف سيُصوّر أيٌّ من الجانبين الآخر على أنه هو من تراجع أولًا.”