تكمن خطيئة إدارات المصارف في طمعها بالفوائد المغرية وعدم التزامها بالتدابير الاحترازية في توزيع المخاطر وتنويعها
أخفى الحاكم الخسائر الناجمة عن ممارساته والمُتراكمة عبر السنين وأمعن في تزوير الأرقام الماليَّة وفي التعمية على الحقائق
إذا كان وزير المالية اطّلَع وفهمَ الأرقام وتغاضى فهو مُتآمر، أما إذا لمْ يكن يطَّلع فالمأساة لا توصَف وانعدام المسؤوليَّة لا مثيل له.
شركات التدقيق سكتت عَن عَدم صحَّة أرقام ميزانية مصرف لبنان وتغاضت عن تجاوز المصارف سقف توظيفاتها لدى جهة واحدة
لجنة المال والموازنة لمْ تسائل يوماً لا وزير الماليَّة ولا شخص الحاكم بشأن حسابات أُخفيَت بداخلها الفجوة والخسائر الهائلة
وسطَ كلِّ معاناة لبنان ومآسي شعبه المُتنوعَّة، تبقى أزمتُه الاقتصاديَّة – الماليَّة هي الأصعب، وهي تستولِد أزماتٍ سياسيَّةً وتُفاقمها. ألا يُقال إنَّ «القِلّة توَلِّد النقار»؟ فكيف إذا ترافق ذلك مع ما يعتري اللبنانيِّين اليوم من قلق على الغد وعلى الاستقرار على المستويات كافَّة؟ في هذا السياق، يبقى ضروريَّاً تحديد المسؤوليَّات والأسباب، عسى يأتي يوم يُحاسَب فيه المُتسبِّبون وتتحقَّق العدالة. ومن أهمّ أسباب الأزمة الماليَّة والنقديَّة، فجوة مصرف لبنان التي انعكسَت تدهوراً مُريعاً في الاقتصاد وإفقاراً مُتعمَّداً للناس، وقد انكشفت بعد تراكُمها وإخفائها لسنوات.
لقَد تمثَّلت الفجوة في حسابات مصرف لبنان، بتبديده نحو 72 مليار دولار أميركي هي أموالٌ للناس كانوا أودعوها بالعملات الأجنبيَّة في المصارف التي بدورها وظَّفت معظمَها في مَصرِف لبنان. وحيثُ أنَّ الفجوة أفقدَت البلد حَصانتَه الماليَّة وأضعفت مناعتَه البُنيويَّة بشكلٍ عام، في ظِلِّ تضليل مُبرمَج وتشويه للوقائع، بات لزاماً تبيان الحقائق، مُنطلقاً للمساءلة السياسيَّة والمحاسبة القضائيَّة، ولوضع ضَوابِط رادعةٍ للاختلالات مستقبلاً.
تتوزَّع المسؤوليَّات بين أفرقاء عدَّة، بَدءاً من المصارف ومصرف لبنان ووزير الماليَّة، مُروراً بمُفوَّضي المُراقبة لدى مصرِف لبنان والمصارف، وصولاً إلى لجنة المال والموازنة، من دون إغفال سلوكيَّات غالبيَّة السياسيِّين في مرحلة الانهيار وما قبلها وما بعدها، ومن دون التغاضي عن إحجام معظم القضاء عن ممارسة دوره بِما تُمليه عليه رسالته.
مسؤولية المصارف
1 – مسؤوليَّة المصارف التي وظَّفت لدى مصرِف لبنان، غير الإيداعات الإلزامية وغير تلك المرتبطة بعمليَّات استيراد، الجزء الأكبر من ودائع عُملائها بالعملات الأجنبيَّة، طمعاً بالفوائد المغرية المنتجة للربح السريع. فهنا تكمن خطيئة إدارات المصارف التي لمْ تلتزم بالتدابير الاحترازية في توزيع المخاطر وتنويعها، بِما يُفترض أن لا تزيد التوظيفات لدى مجموعة ماليَّة واحدة One Obligor عن 20 إلى 25%، فوظَّفت لدى البنك المركزي مُعظم أموال الناس بالعملات الأجنبيَّة.
وقَد تفاقمت هذه المسؤوليَّة بأن ساهمت جمعيَّة المصارف بإجهاض الخطط الإصلاحيَّة لا سيَّما تلك التي اعتمدتها الحُكومة بتاريخ 30 نيسان 2020، ممَّا أضاع إلى الآن أربع سنوات ونيِّف من عمر الوطن والمواطنين منذ انفجار الأزمة في 17 تشرين الأوَّل 2019.
مسؤولية مصرف لبنان
2 – مسؤوليَّة مصرف لبنان مُمثَّلاً بمجلسه المركزي بما كان يطَّلع عليه، لا سيَّما وأنَّ سُلطة تَحديد جدوَل أعماله مناطة حصراً بالحاكم الذي يتمتَّع بأوسع الصلاحيَّات. فعِوضَ أن يحمي الحاكم ودائع الناس والبنوك من أيِّ تصرُّف أرعن، كان هو المشجِّع والمحرِّض على استعمال معظَم توظيفات المصارف بالدولار لدى مصرِف لبنان، وراح يتصرَّف بِها ويُبدِّدها على هواه، خلافاً للأُصول ومن دون رادع أو حسيب أو رقيب، ممَّا شكّل سُوء ائتمان فاضح غيرِ مسبوق.
وتمادياً في جريمته الماليَّة، أقدم الحاكم على إجراء العديد من العمليَّات المحاسبيَّة المُغايرة لقواعد المحاسبة الدوليَّة والوطنيَّة ولقانون النقد والتسليف، فأخفى الخسائر الناجمة عن ممارساته والمُتراكمة عبر السنين، في الميزانيَّة تحت بند «موجودات أُخرى»، وأمعن في تزوير الأرقام الماليَّة وفي التعمية على الحقائق بأنْ صار يدفع للخزينة، سنويَّاً، ما يوازي 40 مليون دولار، إظهاراً لأرباحٍ كانت مجرَّد أوهام. هكذا، كان الحاكم ومن لَفَّ لفَّه «حاميها حراميها».
وعلى غرار جمعيّة المصارف وبالتنسيق المستتر معها، تفاقَمَت مسؤوليَّة مصرف لبنان بأن ساهم بإجهاض الخُطط الإصلاحيَّة لا سيَّما الخطَّة التي كانت الحكومة قد أقرَّتها بتاريخ 30 نيسان 2020 مُفضِّلاً الإبقاء على الوضع السيّئ الذي ازداد تدهوراً، فأوصل سعر الدولار إلى 89,500 ليرة في حين كانت خطَّة الحكومة تقضي برَدّ الودائع التي لا تفوق الخمسمائة ألف دولار وضبط الدولار على سعر 4,300 ليرة. وللعلم، وجَّه رئيس بِعثة صندوق النَقد الدَولي بتاريخ 28 أيَّار 2020، خلال اجتماع عمل بحضور وزير الماليَّة، تحذيراً لحاكم مصرِف لبنان لنَهيه عن التمادي بالتلاعب بسعر الدولار وعَدم إيصاله إلى سقف العشرة آلاف ليرة، معتبراً أنَّ لبنان كان قادراً آنذاك على إبقائه دون ذلك المستوى في حال تنفيذ الإصلاحات المطلوبة.
مسؤولية وزير المالية
3 – مسؤوليَّة وزير الماليَّة المفترَض به، وفقاً للمادَّة 117 من قانون النقد والتسليف، أن يتسَلَّم شخصيَّاً من الحاكم تقريراً مفصَّلاً عن الحسابات السنويَّة لمصرف لبنان وعمليّاته في خلال السنة المنصرمة، وذلك قَبل 30 حزيران من السنة التي تلي السنة الماليَّة. فإذا كانَ الوزير قد اطّلع ولمْ يعرف، فالمصيبة تكمن بدرجة عدم الكفاءَة والتي تصبح في موقع المسؤوليَّة جريمة. وإذا كان اطّلَع وفهمَ مرامي الأرقام وتغاضى، فهو مُتآمر والمُصيبة أعظم. أما إذا لمْ يكن يطَّلع على واقع الأرقام، فالمأساة لا توصَف وانعدام المسؤوليَّة لا مثيل له.
لمْ يتجرّأ سوى قلَّة من الخبراء الشرفاء على التحذير من مُمارسات مَصرِف لبنان ومِن مَخاطِر عدم لجمها وفق القانون، فمصرف لبنان هو شخص معنوي من القانون العام، ورغم تمتُّعه بالاستقلال المالي، يترتَّب على وزير الماليَّة المُتابعة والمُساءَلة، علماً أنَّه لمْ يتغيَّر على مدى ستّ سنَوات، من 15 شباط 2014 ولغاية 22 كانون الثاني 2020. وكان يُفتَرَض بِه الاطِّلاع على حسابات مصرف لبنان العائدة للعام 2013 وللأعوام التي تلتْ لغاية العام 2019، وهي الحقبة التي تكوَّنَت الفجوة في خلالها، والعَمَل على مُعالجة الأمر. فماذا فَعَل هذا الوزير غير تأكيده اللَّفظي على سلامة الوضع المصرفي ومتانة النقد؟!
مسؤولية شركات التدقيق
4 – مسؤوليَّة شركات التدقيق المكلَّفة مراقبة حسابات مصرف لبنان، ومفوَّض الحكومة لدى مصرف لبنان، إذ سكتوا عَن عَدم صحَّة أرقام ميزانيَّته التي كان الحاكم يمارس التضليل بشأنِها ويُزوِّر الحقائق ويصرّح عن أرباح سنويَّة وهميَّة بنحو ٥٠ مليون دولار يدفع لوزارة الماليَّة 80% منها وفقاً للقانون، في حين راح يُخفي خسائره المُتراكمة بمليارات الدولارات التي غطّاها عمليّاً من أموال الناس. علماً أنَّ الواجب البديهي للمُفوَّضين يُلزِمهم بالاعتراض على الحسابات جَهاراً في مثل هذه الحالة.
ومسؤوليَّة شركات التدقيق المكلَّفة مراقبة حسابات المصارف، التي تغاضت عن تجاوز المصارف السقف المعقول (20% إلى 25%) لتوظيفاتها لدى جهة أو مجموعة واحدة، حتّى وإن كانت هذه الجهة مصرف لبنان الذي وصل إجمالي موجودات المصارف لديه بالعُملات الأجنبيَّة، إلى ما يوازي 80% من ودائع الناس في المصارف. فمِن أين لمصرف لبنان أن يعيد مليارات الدولارات التي بدَّدها حاكمه خصوصاً في ما سُمِّي هندسات؟! وهنا الجريمة الماليَّة الكبرى.
كما تجدر الإشارة إلى أنَّ مُفوَّضي مراقَبة حسابات مصرِف لبنان لمْ يتغيَّروا لسنوات طِوال، خلافاً للأُصول، وكانوا في الوقت نفسه مُفوضّي مراقبة حسابات عدد من المصارف اللبنانيَّة. وللعلم، كان مشروع قانون الموازنة للعام 2017 وفي المادَّة 30 منه، يلحظ فقرَتَين تتضمَّنان تحميل خبراء المُحاسبة المُجازين مسؤوليَّة مشتركة مع المُكلَّفين في حال ثبُت بموجب حكم قضائي تقاعسهم عن إبداء الرأي عن أعمال التهرُّب الضَريبي أو تواطؤهم مع المُكلَّفين لديهم. ولقد أُزيلت تلك المادَّة بفقرتَيها في خلال مناقشة مشروع قانون الموازنة، جزءٌ منها في اللجنة الوزاريَّة المختصَّة، والجزء الآخر في اللجان النيابيَّة، ممَّا يؤكِّد قدرة «اللوبيَّات» مع حلفائها، على الحؤول دون الإصلاح وعلى التهرُّب من المساءلة والمحاسبة.
مسؤولية لجنة المال والموازنة
5 – مسؤوليَّة لجنة المال والموازنة التي لمْ تسائل يوماً، لا وزير الماليَّة ولا شخص الحاكم، بشأن حسابات مصرف لبنان التي أُخفيَت بداخلها الفجوة والخسائر، وقد تغافلَتْ اللجنة عن التدقيق في معطيات طرحها على الملأ خبراء مشهود لهم بالعِلم والمناقبيَّة.
كذلك، تتجلّى المسؤوليَّة بتحوُّل رئيس اللجنة وأعضائها، على تنوُّع انتماءاتهم السياسيَّة، إلى رأس حربة إجهاض الخطّة الإصلاحيّة التي أقرَّتها الحكومة بتاريخ 30 نيسان 2020، والتي كانت تقضي بإعادة الودائع لغاية سقف نصف مليون دولار والباقي على شكل مساهمات، وكانت تلحظ سعر 4300 ليرة للدولار في العام 2024. وبغرض شيطَنة الخطَّة وإسقاطها، جرى التشكيك بِما تضمَّنته من أرقام، ولمَّا ثبُتَت صحَّتها لاحقاً، كان قد فات الأوان وتفاقمت الخسارة على الناس والاقتصاد وتعمَّقت الأزمة.
بالخلاصةهؤلاء جميعاً، الفرقاء الخمسة، هم المسؤولون الرئيسيّون الذين شاركوا في الجريمة الماليَّة بِحقِ لبنان وشعبه أو تغاضوا عنها، مع إضافة إخفاء وزير الماليَّة وحاكم مصرف لبنان للتقرير المشترك الذي صدَر في نيسان 2016 عن صندوق النَقد الدولي والبنك الدولي والذي أشار إلى بِداية تكوُّن الرصيد السلبي لاحتياطات مصرف لبنان قبل تاريخ 31 كانون الأوَّل 2015 حيث بَدت مؤشِّرات العجز مقلقة.
وماذا عَن مُعظم القضاء الذي انكفأ عَن المساءَلة والمحاسبة بَدءَاً بالمدَّعي العام المالي وهو عضوٌ في هيئة التحقيق الخاصَّة بحكم القانون؟!
كما أنَّ مسؤوليَّة غالبيَّة السياسيّين واضِحة وجَلِيَّة مِن خلال الحكومات والمجالِس النيابيَّة، وهُم لمْ يسائلوا أحداً يوماً بل إنَّ البعض منهم تغاضى عن جَهل أو عن جُبن، والبعض الآخر كان متآمراً وشريكاً، ناهيك عن فشلهم في استنباط الحلول للأزمة التي استفحلَت بعد أحداث 17 تشرين الأوَّل 2019، فتراكمت فجوة مصرف لبنان وتكاثرت هجرة اللبنانيِّين يأساً وبحثاً عن أسباب الحياة.
هذا ما فعلَه هؤلاء ومن معهُم من ذوي النفوذ في الإعلام والأمن. هذا عدا محاولات إسكات من تجرَّأوا على قول الحقّ قبل فوات الأوان، وصولاً إلى حدِّ اتِّهام بعضهم زوراً، بالتآمُر على الأمن الاقتصادي للبلاد.
باتَ مكشوفاً للعَيان أنَّ هؤلاء همْ أكثر من منظومة… إنَّهم تركيبة هجينة في الظاهر، موحَّدة في المصالِح، متغلغِلة في السياسة والاقتصاد والقضاء والأمن والإعلام، عابرة للطوائف وفوق الأحزاب.
إنَّهم مُغفَّلون، مُقصِّرون، وأفدَح صِفاتهم أنَّهم مجرمون بِحقِِّ الوطن.