المساعدات العينية… عيّنة من “بدل عن العيش”

عادة ما تكون عناوين معالجة الأزمات رنانة، كأسماء الحكومات، ربما. المشكلة ليست في الطموحات الكبيرة، بقدر ما هي في استنساخ التجارب القديمة والقديمة جداً؛ تجارب بمعظمها تعدّاها الزمن، جميعها يقع في فخ فقدان القيمة المضاعفة والهدر، وتخطي قيمة الأموال المدفوعة، الفوائد المرجوة. وهذا تحديداً ما يجب ألا تقع فيه “الدولة” في خطتها الأحدث لمواجهة تداعيات كورونا ومن خلفها المحنة المعيشية.
أمام تعطل الإنتاج وفقدان الآلاف مصدر عيشهم الهزيل، كان لا بد من التدخل المحترف. فجندت الحكومة كل طاقاتها لمواجهة الفقر، وخرجت من بوابة الشؤون الإجتماعية بخطة “الاستجابة السريعة”. الخطة تنص في عنوانها العريض على تقديم سلّة غذائية تشمل حوالى 30 مكوّناً من الحاجات الغذائية الأساسية، ومن مواد تنظيف وتعقيم، بقيمة إجمالية تصل إلى 180 ألف ليرة لبنانية. سيتولى الجيش بالتنسيق مع السلطات المحلية توزيعها على ما لا يقل عن مئة الف أسرة يندرجون في خانة الأكثر فقراً. منهم: 28 ألفاً يحملون بطاقة حياة، و15 ألفاً من حمَلة بطاقات حياة والبطاقة الغذائية، وحوالى 25 ألف طفل ومسن وشخص من ذوي الإعاقة، و4300 أسرة من مصابي الالغام. على ان يتوسع البرنامج في المرحلة المقبلة بجهود البلديات واحصاءات وزارة العمل والصندوق الوطني للضمان الاجتماعي، ليضم المصروفين من العمل، وسائقي السيارات العمومية، وصيادي الاسماك وغيرهم من لا يملك مصدر دخل. أما الكلفة الإجمالية فهي تقارب الـ 18 ألف مليار ليرة.

رقم هزيل

الرقم الاجمالي لقيمة المساعدات (18 الف مليار ليرة) يعيدنا إلى الورقة الإصلاحية التي قدمتها حكومة الرئيس سعد الحريري قبل سقوطها، والتي تضمنت آنذاك تخصيص 20 ألف مليار ليرة لدعم الأسر الأكثر فقراً. بمعنى آخر فإن الرقم المخصص قبل استحكام الأزمة الإقتصادية من مفاصل العمل والعمال، وانتشار “كورونا”، كان أكبر بـ 2000 مليار ليرة. وبجميع الأحوال، فإن حتى مبلغ الـ 20 ألف مليار، اعتبر وقتها من قِبل عضو المجلس التنفيذي في الكتلة الوطنية روبير فاضل: “كمن يعطي حبة مسكن لمريض السرطان، لأن تقسيم هذا المبلغ على 250 ألف لبناني يعيشون بأقل من 6 دولارات يومياً (قبل العام 2020) يعطي الفرد 48 دولاراً شهرياً (على سعر الصرف الرسمي 1507.5)، وهو رقم يشكل إهانة للبنانيين”.

المساعدة نقداً

ربّ قائل، ماذا تستطيع ان تفعل الدولة أكثر من ذلك. فامكانياتها معدومة وميزانيتها مكسورة وخزائنها فارغة. فهل من الأفضل لها ان تكتّف يديها وعدم القيام بمبادرتها بحدود إمكانياتها؟

يجيب رئيس مجلس الإدارة والمدير العام لـ FFA Private Bank جان رياشي: بـ “لا، على الأكيد”. “فالإعتراض اليوم ليس على الهدف بل على الطريقة التي تجري فيها إدارة هذا الملف الحساس والمهم جداً في هذه الظروف”. ينطلق رياشي من مقاربته للموضوع من زاويتين مختلفتين: الاولى، ضرورة توسيع قاعدة المستفيدين من التقديمات. إذ انه بالاضافة إلى الأسر الأكثر حاجة فقد انضم آلاف العاطلين عن العمل الى قوائم الفقراء والمعدومين الذين لا يستطيعون تأمين قوت يومهم. أما الزاوية الثانية، فهي أهمية استبدال المساعدات العينية بالمادية. أي بدفع الاموال نقداً للأسر والأفراد المحتاجين، وذلك لأسباب عدة تتعلق بالإقتصاد الكلي، أي على الصعيد العام، والاقتصاد الجزئي المرتبط بحاجات ومتطلبات الأسر.

بالاضافة الى ان بطلان “موضة” توزيع “الإعاشات” التي تعود فلسفتها إلى الدول الاشتراكية، فهي تجبر المستهلكين على استهلاك سلع قد لا تكون مهمة او مستعملة من قبلهم، ولا تحتل الاولوية في سلتهم الغذائية، وتقصي عنهم ما يحتاجونه فعلياً، هذا من ناحية. أما من الناحية الثانية فماذا يُفيد الاسر المعدومة التي نفترض انها لا تملك “ليرة”، الحبوب من قمح وعدس ورز… اذا كانت عاجزة عن شراء الغاز المنزلي لطهوها أو المازوت للتدفئة، أو غيرها الكثير من السلع الوسيطة التي أصبحت حاجة ضرورية للمعيشة؟

من هنا فان توزيع المساعدات نقداً يكون أكثر فائدة على مستوى الأسر التي هي أدرى بحاجاتها ومتطلباتها. وهو أيضا ما يمنع الغش والتلاعب والاحتكار والاستغلال السياسي والمناطقي. أما على المستوى الوطني العام فان توزيع الاموال نقداً يخلق، بحسب رياشي، “قيمة مضاعفة، أي انه يساهم بتنشيط وتحريك العجلة الإقتصادية على صعيد المدن والقرى”. فبدلاً من أن يستفيد من المساعدات العينية المقدرة بـ 18 ألف مليار ليرة بعض الموردين، تتوزع هذه القيمة، في حال اعطائها نقداً، على آلاف المحلات الصغيرة والمؤسسات في الأحياء والقرى. وهو ما يساعد في تنشيط العجلة الإقتصادية وتوزيع الفوائد على اوسع قدر ممكن من الأشخاص.

تأمين الأموال

المشكلة الأخرى في هذه الخطة تكمن في كمية الأموال المحدودة جداً، بالقياس إلى الأعداد المحتاجة إلى إعانات. فاذا قسمنا الـ 18 ألف مليار على 100 ألف عائلة مؤلفة أقله من 4 أشخاص، تكون حصة كل عائلة 180 ألف ليرة أو 66 دولاراً شهرياً على سعر صرف السوق المقدر حاليا بـ 2700 ليرة لكل دولار، وهو رقم “بدل عن عيش” وليس للعيش. فيما يمكن، بحسب رياشي، “تأمين مبلغ يصل الى مليار دولار، من خلال فرض ضريبة تكافل اجتماعي بنسبة 1 في المئة تفرض لمرة واحدة على الودائع الكبيرة بحسب الشطور، وذلك من أجل تأمين الموارد التي تسمح بتزويد الأسر بالقدر الحقيقي والكافي من الاموال”.

هذا التدبير ليس افتراء على المودعين، بل هو مساهمة متواضعة في اعادة توزيع اجتماعي للثروة في أصعب مرحلة يمر بها لبنان كما ان نتائجه قد تصب في مصلحتهم أيضاً بعد انتهاء ازمة كورونا وعودة الحياة الى طبيعتها.

مصدرخالد أبو شقرا - نداء الوطن
المادة السابقةضاهر: المصارف تُنفِق من أموال المودعين
المقالة القادمة“آبل” تطلق موقعًا إلكترونيًا وتطبيقًا لتشخيص أعراض “كورونا”