في ظل الأزمات المتلاحقة التي تعصف بلبنان، تبرز المساعدات الدولية كطوق نجاة للشعب اللبناني الذي يرزح تحت وطأة الفقر والانهيار الاقتصادي. ومع ذلك، فإن هذه المساعدات التي كان من المفترض أن تساهم في تخفيف معاناة المواطنين وإعادة بناء ما دمرته الحرب، تحولت إلى وسيلة لدعم المصارف اللبنانية، التي استغلتها لتحقيق أرباح غير مشروعة على حساب الشعب اللبناني. هذا الواقع يثير تساؤلات جوهرية حول مدى فعالية الرقابة على تدفقات المساعدات الدولية ودور مصرف لبنان في تطبيق معايير الشفافية والمساءلة وفقًا للمعايير الدولية، لاسيما اتفاقيات بازل.
إن جزءًا كبيرًا من المساعدات الدولية التي قُدمت إلى لبنان في العام 2024، بلغت ما يقارب 2 مليار دولار أمريكي، لم تصل إلى مستحقيها من الفئات الأكثر حاجة، بل استقرت في حسابات المصارف اللبنانية، حيث استُخدمت في تغطية خسائر هذه المصارف ودعم أرباحها. هذه الممارسات تكشف عن خلل كبير في آليات توزيع المساعدات وغياب الرقابة الفعالة، ما يفرض ضرورة إعادة النظر في كيفية إدارة هذه الأموال وضمان توجيهها لتحقيق أهدافها الإنسانية.
حجم المساعدات
أطلقت الحكومة اللبنانية خطة طوارئ في 31 تشرين الأول 2023، حدّدت فيها مسارين رئيسيين للتمويل، الخزينة العامة والمنظمات الدولية. وفي إطار تأمين التمويل بشكل مستدام، أطلقت الحكومة اللبنانية “خطة الاستجابة اللبنانية” (Lebanon Response Plan – LRP)، وهي مبادرة تهدف إلى معالجة الأزمات السابقة خلال عام 2024، بموازنة إجمالية تبلغ 2.72 مليار دولار أمريكي. حتى كانون الأول 2024، تم تأمين 1.15 مليار دولار أمريكي، وهو ما يمثل 50 في المئة من إجمالي المبلغ المطلوب. شمل هذا المبلغ 813.7 مليون دولار أمريكي جرى تأمينها خلال عام 2024، بالإضافة إلى 333.5 مليون دولار أمريكي مدورة من المساعدات غير المنفقة لعام 2023 التي بلغت 939.4 مليون دولار أمريكي.
وفي مواجهة الأزمة الإنسانية المتفاقمة، أطلقت الأمم المتحدة “النداء العاجل للبنان” (Flash Appeal) في 1 تشرين الأول 2024، بقيادة مكتب تنسيق الشؤون الإنسانية (OCHA). استهدف النداء جمع مبلغ 425.6 مليون دولار أمريكي لمعالجة الاحتياجات الإنسانية الأكثر إلحاحًا. حتى تاريخ كتابة هذا التقرير، تم تأمين 333 مليون دولار أمريكي، أي ما يعادل 78% من قيمة النداء العاجل. وقد تولى منسق الشؤون الإنسانية في لبنان، عمران ريزا، قيادة هذه الجهود بالتعاون مع وكالات الأمم المتحدة، المنظمات غير الحكومية، بالإضافة إلى ذلك، تم تقديم ما مجموعه 35.4 مليون دولار أمريكي لدعم الاستجابة الطارئة بين 8 تشرين الأول 2023 و30 أيلول 2024. وقد تم تقديم مساعدات لأهداف محددة، ليرتفع معه مبلغ 136.5 مليون دولار أمريكي إلى مبلغ بقيمة 137.1 مليون دولار أمريكي، وقد أُعيد برمجته استجابةً للنداء العاجل.
وفي 24 تشرين الأول 2024، أطلق الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون مبادرة جديدة لدعم لبنان عقب زيارة وزير أوروبا والشؤون الخارجية، جان-نويل بارو، إلى المنطقة. أثمرت هذه الجهود عن انعقاد مؤتمر باريس، الذي خصص مبلغًا يقارب مليار دولار أمريكي، بما في ذلك 200 مليون دولار لدعم الجيش اللبناني. ومع ذلك، تظل آليات تنفيذ هذا الدعم غير واضحة حتى الآن. مع الإشارة إلى أنه تم الإعلان في 6 كانون الثاني 2025 عن مساعدة أمريكية إلى الجيش اللبناني من قبل إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن بقيمة 95 مليون دولار من المساعدات العسكرية. ولكن هذه المساعدة الأخيرة لا تدخل ضمن المساعدة التي خُصصت للجيش اللبناني والمحددة بقيمة 200 مليون دولار.
من جهة أخرى، وفي سياق منفصل، خصصت المفوضية الأوروبية في 2 أيار 2024 حزمة مالية بقيمة مليار يورو لدعم لبنان خلال الفترة 2024-2027. ومع تطورات الأزمة وسقوط النظام السوري، يتوجب على الحكومة القيام بالمقاصة تبعاً لعودة بعض النازحين السوريين مع استقرار الوضع في سوريا وتحديد المبالغ التي استلمتها ومقدار ما تم توزيعه منها. وهنا أيضاً نرى بوضوح انعدام الشفافية وكيفية التوزيع.
المخالفات القانونية للمصارف
في هذا السياق، لا بد من تسليط الضوء على متطلبات بازل، التي وضعت لضمان استقرار النظام المالي العالمي من خلال فرض معايير صارمة لإدارة السيولة ورأس المال. ورغم أن هذه المتطلبات تهدف إلى تعزيز قدرة المصارف على مواجهة الأزمات المالية، إلا أن التطبيق الفعلي لهذه المعايير في لبنان كشف عن تجاوزات خطيرة. فقد لجأت المصارف اللبنانية إلى التلاعب في نسب السيولة ورأس المال من خلال إدراج أدوات مالية غير مطابقة لمعايير الأصول السائلة عالية الجودة (HQLA) ضمن حساباتها، ما ساهم في تضخيم أرقام السيولة بشكل وهمي.
من أبرز هذه التجاوزات، قيام مصرف لبنان بإصدار التعميم الوسيط رقم 707، الذي سمح بإدراج سندات الخزينة وسندات اليوروبوند ضمن الأصول السائلة، رغم أنها لا تتوافق مع معايير بازل. هذا التلاعب لم يقتصر على البيانات المالية فحسب، بل امتد ليشمل تقديم فوائد مرتفعة (تصل الى 45%) على الودائع بالليرة اللبنانية، مستغلة بذلك التدفقات المالية من المساعدات الدولية. هذه السياسات ساعدت المصارف على تحقيق أرباح قصيرة الأمد، لكنها في المقابل زادت من هشاشة النظام المالي اللبناني.
لمعالجة هذا الوضع الخطير، بات من الضروري الغاء التعاميم الصادرة عن المصرف المركزي التي تسمح بالبقاء المؤقت للمصارف. وفرض الالتزام بمتطلبات بازل دون التحايل عليها لتحقيق مصالح ضيقة، مع التركيز على تعزيز الشفافية والرقابة. ومن هنا، يمكن اقتراح عدد من الخطوات العملية:
أولًا: الشفافية بإدارة المساعدات
تحديد المصارف التي تلتزم بمعايير دولية، وتحديد من يمكنه فتح حسابات مصدرها المساعدات الدولية. ومن ثم إلزام المصارف بفتح حسابات مستقلة للمساعدات الدولية تحت إشراف مباشر من الجهات الرقابية، مع نشر تقارير دورية مفصلة حول كيفية استخدام هذه الأموال. بالإضافة الى فرض تدقيق خارجي مستقل على هذه الحسابات لضمان توجيه الأموال للأغراض الإنسانية المحددة.
ثانيًا: معايير الأصول السائلة
تعديل تعريف الأصول السائلة عالية الجودة (HQLA) لاستبعاد السندات الحكومية المثقلة بالمخاطر، مثال اليوروبوند، والتركيز فقط على الأدوات المالية المنخفضة المخاطر. مع مراقبة دقيقة لتطبيق نسبة تغطية السيولة (LCR) لضمان التزام المصارف بالمعايير الدولية وعدم التلاعب بالبيانات المالية.
ثالثًا: ضوابط على الفوائد
وضع سقف للفوائد على الودائع بالليرة اللبنانية لمنع المصارف من استغلال المساعدات الدولية في تمويل أرباحها. مع تقييم كيفية تحديد المصارف للفوائد والمقابل المالي للخدمات المالية، مثل أسعار الفوائد على القروض والودائع والرسوم المصرفية. الهدف من هذه المراقبة هو ضمان التزام المصارف بالقوانين والمعايير العادلة ومنعها من استغلال الظروف لتحقيق أرباح مفرطة أو غير مشروعة، خاصةً عند وجود تدفقات مالية كبيرة مثل المساعدات الدولية.
رابعًا: لجنة رقابية مستقلة
تشكيل لجنة مستقلة تضم ممثلين عن مصرف لبنان والجهات الرقابية الدولية والمنظمات الإنسانية لمراقبة توزيع المساعدات وضمان وصولها إلى مستحقيها. هذه اللجنة يجب أن تتمتع بصلاحية الاطلاع الكامل على حسابات المصارف المستقلة العائدة للمساعدات الدولية وتقديم توصيات ملزمة لمعالجة أي تجاوزات.
خامسًا: الإفصاح المالي
إلزام المصارف اللبنانية بالإفصاح الكامل عن مصادر الأموال الناتجة عن المساعدات الدولية واستخداماتها في التقارير المالية السنوية. تطبيق عقوبات صارمة على المصارف التي تقدم بيانات مضللة أو تخفي معلومات جوهرية تتعلق بالمساعدات الدولية.
حماية المساعدات
إن تطبيق هذه الخطوات لا يهدف فقط إلى حماية المساعدات الدولية من الاستغلال، بل يسهم أيضًا في تعزيز استقرار النظام المالي اللبناني واستعادة الثقة المحلية والدولية بالمصارف اللبنانية. فالتحديات التي تواجه لبنان اليوم تتطلب معالجة جذرية وشاملة، تبدأ بإصلاح القطاع المصرفي وضمان التزامه بالمعايير الدولية، وتنتهي بتوجيه المساعدات الدولية لتحقيق أهدافها الإنسانية بعيدًا عن المصالح الضيقة للمصارف والسياسيين.
بالمحصلة، إن تعديل متطلبات بازل وتطبيقها بصرامة يشكل خطوة ضرورية لاستعادة الاستقرار المالي في لبنان وضمان استخدام المساعدات الدولية بالشكل الأمثل. وعلى المجتمع الدولي أن يتحمل مسؤوليته في مراقبة تطبيق هذه المعايير، والتدخل عند الضرورة لضمان عدم استغلال هذه الأموال في دعم أرباح المصارف على حساب الشعب اللبناني.