فوجئت الأسواق المالية بالبيانات التي أصدرها مكتب إحصاءات العمل في الولايات المتحدة يوم الجمعة، والتي أظهرت أن الاقتصاد الأميركي أضاف 353 ألف وظيفة في يناير (كانون الثاني)، أي ما يقرب من ضعف العدد المتوقع.
يأتي ذلك في وقت تم فيه استبعاد خفض سعر الفائدة في شهر مارس (آذار) – الذي وصفه رئيس «الاحتياطي الفيدرالي» جيروم باول، بعد اجتماع اللجنة الفيدرالية للسوق المفتوحة بأنه غير مرجح – في «وول ستريت» نتيجة لبيانات التوظيف القوية.
تقول صحيفة «فايننشيال تايمز» في تقرير لها، إن محافظي المصارف المركزية بجميع أنحاء العالم بدأوا الاستعداد لخفض أسعار الفائدة على خلفية التضخم الضعيف بشكل مطرد. ولكن، كما تظهر أرقام الوظائف في الولايات المتحدة، فإن أسواق العمل الساخنة هي أكبر عقبة محتملة أمام تحقيق أهداف التضخم البالغة 2 في المائة.
وتنقل الصحيفة عن الخبير الاقتصادي في جامعة كورنيل، إسوار براساد، أن بيانات يوم الجمعة جعلت إعلان النصر على التضخم قراراً «أكثر صعوبة» بالنسبة للمصارف المركزية. وأضاف: «الحقيقة هي أنه في ظل هذه الضغوط، سيكون من الصعب للغاية إبقاء التضخم تحت السيطرة ما لم يظل نمو الإنتاجية قوياً».
هذا لا ينفي التحسن الكبير في صورة التضخم. فقبل عام واحد، كان «الاحتياطي الفيدرالي» ونظراؤه في خضم سلسلة وحشية من الزيادات في أسعار الفائدة التي يخشى البعض أنها قد تدفع الاقتصادات إلى الركود.
تفاؤل حذر
في فبراير (شباط) من عام 2023، حذر باول من أنه لا تزال أمام المسؤولين «طريق طويلة لنقطعها» أثناء محاولتهم تهدئة «الصعوبات الكبيرة» التي يمثلها أعلى معدل تضخم منذ 40 عاماً. ومنذ ذلك الحين، انخفض التضخم نحو هدف «الاحتياطي الفيدرالي» البالغ 2 في المائة عبر مجموعة من التدابير المختلفة.
وفي فرنكفورت، بدت رئيسة المصرف المركزي الأوروبي، كريستين لاغارد، في 25 يناير (كانون الثاني)، إيجابية على نحو مماثل بشأن صورة منطقة اليورو عندما أعلنت أن «عملية خفض التضخم» قد بدأت بالفعل؛ حيث يبلغ نمو الأسعار الرئيسية في الكتلة الآن 2.8 في المائة، وهو ما لا يبعد كثيراً عن هدف «المركزي» الأوروبي البالغ 2 في المائة.
وقال محافظ بنك إنجلترا، أندرو بيلي، للصحافيين في لندن يوم الخميس الماضي، إنه رأى «أخباراً جيدة بشأن التضخم»، بعد أن انخفض نمو الأسعار في المملكة المتحدة إلى النصف في 6 أشهر، إلى 4 في المائة.
وأذهلت سرعة تراجع التضخم في الأشهر الأخيرة كثيراً من واضعي أسعار الفائدة. وانخفض نمو أسعار المستهلك في الاقتصادات المتقدمة من أكثر من 7 في المائة في عام 2022، إلى 4.6 في المائة في عام 2023، وفقاً لصندوق النقد الدولي.
وأشارت توقعات الصندوق الأسبوع الماضي، إلى مزيد من الانخفاض إلى 2.6 في المائة فقط هذا العام – أقل بكثير من توقعاته السابقة البالغة 3 في المائة – مع توقع أن تشهد أربعة أخماس الاقتصادات التي يتتبعها تضخماً رئيسياً سنوياً وانخفاض التضخم الأساسي في عام 2024.
يقول رئيس قسم الاقتصاد الكلي العالمي في معهد «أموندي» للاستثمار، محمود برادان، إن اتجاه التضخم الآن «انخفض بشكل حاسم، وهي مسألة وقت فقط قبل أن نشهد تخفيضات كبيرة في أسعار الفائدة هذا العام». وأضاف: «من باب الحذر، يريد محافظو المصارف المركزية الانتظار لفترة أطول قليلاً، لكن يمكنني أن أرى الاحتياطي الفيدرالي والمركزي الأوروبي وبنك إنجلترا تخفض أسعار الفائدة في منتصف هذا العام».
مصير أسواق العمل
إن التقدم المستمر في قصة تراجع التضخم سوف يتوقف بشكل كبير على مصير أسواق العمل. ورغم أن الانخفاض الأولي في التضخم كان مدفوعاً بعوامل خارجية، فإن التقدم يعتمد الآن على المهمة الأكثر صعوبة المتمثلة في كبح نمو الأسعار المحلية. وسيكون ذلك أكثر صعوبة إذا ظل نمو الوظائف والأجور قوياً للغاية.
يقول الاقتصاديون إن التخلص من آخر بقايا نمو الأسعار الزائد قد يتطلب من صانعي السياسات الحفاظ على سياسة صارمة بشكل مستمر تؤدي إلى مزيد من انخفاض الطلب.
كل هذا يعكس المخاوف التي ظلت تطارد محافظي المصارف المركزية لعدة أشهر: فهل يتبين أن «الميل الأخير» من الجهود الرامية إلى دفع نمو الأسعار إلى الانخفاض إلى المستوى المستهدف بنسبة 2 في المائة هو الأكثر صعوبة؟ وإذا حدث ذلك، فسيتعين على المصارف المركزية أن تتحلى بالصبر بشكل خاص قبل خفض أسعار الفائدة.
ومن بين المصارف المركزية الكبرى، بدا المسؤولون في «الاحتياطي الفيدرالي» الأقل اهتماماً بالصعوبات المتمثلة في اجتياز تلك المرحلة الأخيرة من رحلة مكافحة التضخم.
وتدين ثقة «الاحتياطي الفيدرالي» بشيء ما لطبيعة التضخم في الولايات المتحدة ووتيرة هبوطه. وفي حين تضررت الولايات المتحدة بشدة من تعطيل سلاسل التوريد المرتبطة بفيروس كورونا، فإنها لم تشهد ذلك النوع من الارتفاع في أسعار الطاقة الذي أدى إلى ارتفاع الأسعار بجميع أنحاء أوروبا في أعقاب الغزو الروسي لأوكرانيا. ونتيجة لذلك، لم يصل التضخم في الولايات المتحدة قط إلى رقم مزدوج، وبلغ ذروته عند 9.1 في المائة في عام 2022.
التوازن بين التضخم والنمو
وفي «المركزي» الأوروبي، أوضح واضعو أسعار الفائدة أن تركيزهم الرئيسي في الأشهر المقبلة سوف ينصب على تسويات الأجور، وما إذا كانت متوافقة مع هدف التضخم بنسبة 2 في المائة، أم لا.
وفي ديسمبر (كانون الأول) الماضي، حذر رئيس البك المركزي الألماني يواكيم ناجل، من أن التضخم هو «وحش عنيد وجشع»، وأن خفضه سيتطلب «الصر على أسنانك وعدم التراجع». وفي الآونة الأخيرة، بدا ناجل أكثر تفاؤلاً إلى حد ما، حيث قال في إحدى الفعاليات التي أقيمت ببرلين الأسبوع الماضي، إنه تم «ترويض» الوحش.
لكن لاغارد حذرت من أنه «من السابق لأوانه» مجرد مناقشة التخفيضات المحتملة بأسعار الفائدة في هذه المرحلة – وهو أمر بالغ الأهمية بسبب ارتفاع الأجور. وما يثير القلق في «المركزي» الأوروبي وغيره من الأماكن هو أن العمال سوف يطالبون بزيادات كبيرة في الأجور من أجل استعادة القوة الشرائية التي فقدوها خلال الارتفاعات الأولية في الأسعار. وبينما تجد هذه القوة الشرائية المزدادة طريقها إلى الاقتصاد، فإنها تؤدي إلى ارتفاع جديد في الأسعار.
وكما الحال في الولايات المتحدة، ترتكز هذه المخاوف على المرونة غير المتوقعة التي تتمتع بها سوق العمل في المنطقة. وظلت البطالة في منطقة اليورو عند مستوى قياسي منخفض بلغ 6.4 في المائة في ديسمبر، ولا يزال كثير من الشركات – خصوصاً في قطاع الخدمات – يشكو من أن نقص العمالة هو العائق الرئيسي أمام الإنتاج.
وعلى الرغم من أن أسواق العمل ضيقة، فقد يكون من الصعب على كثير من الشركات تمرير تكاليف الأجور المرتفعة، لأن الاقتصادات الأساسية – على عكس الولايات المتحدة – تعاني من الركود. ويقول المسؤول السابق في «المركزي» الأوروبي الذي يدير الآن المعهد الألماني للأبحاث الاقتصادية في برلين، مارسيل فراتشر: «الارتفاع لمرة واحدة في الأجور يختلف تماماً عن الدوامة. يجب على المركزي الأوروبي أن ينظر في تعديل لمرة واحدة».
وفي السر، يقول واضعو أسعار الفائدة في «المركزي» الأوروبي، إنهم يشعرون بالثقة. ويقول أحد أعضاء مجلس إدارتها: «إننا نرى المؤشرات تتحرك في الاتجاه الصحيح. السياسة النقدية ناجحة. التضخم يتراجع».
مخاوف اضطرابات البحر الأحمر على التضخم
أضافت المخاوف من «مخاطر جانبية صعودية» أخرى للتضخم إلى حذر محافظي المصارف المركزية. ومن الأمثلة الواضحة على ذلك؛ الصراعات المستمرة في الشرق الأوسط؛ حيث يُعدّ تعطيل الشحن نتيجة الهجمات التي يشنها الحوثيون على السفن في البحر الأحمر عاملاً يمكن أن يدفع التضخم إلى الارتفاع أعلى من المتوقع. ويبدو أن أوروبا معرضة بشكل خاص بالنظر إلى أهمية طريق التجارة للواردات من الصين.
ومع ذلك، يميل واضعو أسعار الفائدة، بما في ذلك لاغارد من «المركزي» الأوروبي، إلى التقليل من شأن هذه القضية، مشيرين إلى أن الشحن لا يمثل سوى 1.5 في المائة من إجمالي تكلفة السلع. ويبدو أن الاقتصاديين يتفقون مع ذلك. وقدر بنك «غولدمان ساكس» أن ارتفاع أسعار شحن الحاويات سيضيف 0.1 نقطة مئوية فقط إلى التضخم العالمي.