نشرت جمعية المصارف أمس المقالة الشهرية لأمينها العام فادي خلف الذي أثنى على توجّهات الحاكم المؤقت لمصرف لبنان الدكتور وسيم منصوري، متوقّفاً أمام التشدد في إيقاف استخدام الإحتياطي الباقي في مصرف لبنان، إلا لغرض ردّ أموال للمودعين. وفي سياق مدح الحاكم الجديد (على قاعدة مات الملك عاش الملك) لم يفت خلف توجيه سهام نقد لاذع للحاكم السابق لمصرف لبنان رياض سلامة. نقد مستجدّ بعدما كانت جمعية المصارف تُجاري سلامة وتمالئه وتجامله منذ ما قبل الأزمة وخلال سنواتها الأربع الماضية. لم تتجرّأ على معارضته يوماً، لا بل أثنت البنوك على كثير من توجّهاته لا سيّما تلك التي تلائم مصالحها وتحول دون إعلان إفلاسها رسمياً كما كان يجب وفقاً للقانون 2/67، وتظهيراً للواقع كما هو بلا أي ماكياج تحايلي ولا شراء للوقت.
كانوا يجاملونه ويتماهون مع إجراءاته الإستنسابية والظالمة
وخير دليل مثير على التماهي بين المصرفيين وسلامة هو البيان الشهير الذي أصدرته الجمعية في تشرين الثاني 2019، وقالت فيه ما حرفيته: «تشيد الجمعية بتطمينات سعادة الحاكم في ما خصّ عدم النية باعتماد آليات الكابيتال كونترول والهيركات…» في الوقت الذي استمتعت فيه البنوك بممارسة الكابيتال كونترول استنسابياً لمصلحة فئات دون أخرى وتنفيذاً لأجندات النافذين بتهريب أموالهم خارج لبنان، كما السير بالهيركات الظالم الذي ابتدعه سلامة واعتمدته البنوك بسرور بالغ لتذويب عشرات المليارات من الودائع، وبالتالي تخفيض خسائر مصرف لبنان والقطاع المصرفي على حساب المودعين.
خاضوا البحر معه ضد لازار وحسّان دياب
وفي 2020 خاضت جمعية المصارف، جنباً إلى جنب مع حاكم مصرف لبنان ولجنة المال والموازنة، حرباً شعواء على حكومة حسّان دياب وتحديداً على جبهة تحديد الخسائر وصولاً إلى إجهاض التفاوض مع صندوق النقد الدولي، ثم تبيّن أن الخسائر التي قدّرتها خطة لازار هي نفسها التي اعتمدتها حكومة ميقاتي وصندوق النقد في 2022. ورغم ذلك لم يسمع الرأي العام اعتذاراً أو استدراكاً أو تنويهاً لا من البنك المركزي ولا من جمعية المصارف ولا من رئيس لجنة المال والموازنة كأن شيئاً لم يكن، لكنّ ذاكرة الناس ليست قصيرة الى هذا الحدّ الذي يعتقدونه.
تضليل في أسطورة هدر الدولة أموال المودعين
ويقول خلف في مقالته أيضاً أمس «تسلّم منصوري حاكمية مصرف لبنان ليجد نفسه في مواجهة مع احتياجات الدولة واتّكالها الأزلي على أموال المودعين التي تعوّدت مصادرتها على مَرّ السنين». عبارة «الاتّكال الأزلي» مضلّلة أو مستخدمة في سبيل التضخيم اللغوي، لكنّ النتيجة واحدة. فبالأرقام المدقّقة، وبمراجعة من عدة جهات محلية متخصّصة ودولية مثل صندوق النقد الدولي، فإن صرف مصرف لبنان من شهادات إيداع المصارف لديه (أموال المودعين) بدأ عملياً بزخم بعدما نفد الاحتياطي الصافي للبنك المركزي، وتحديداً منذ 2014-2015. وتزامن ذلك مع تسلّم علي حسن خليل وزارة المالية، وللتفصيل الأخير أهمية خاصة إذ كان باستطاعة خليل ومفوّض الحكومة لدى مصرف لبنان إيقاف النزيف ولم يفعلا كرمى لعيون المنظومة، فتمادى ذلك الصرف (النزيف) في موازاة العجز المتفاقم للموازنات التي أعدّها علي حسن خليل طيلة وجوده في تلك الحقيبة التي يصرّ «الثنائي الشيعي» على أنها من حصته، كما يصرّ على أنه ليس مسؤولاً عن الأزمة!
كانوا راضين وما الصحوة إلا هروب من المسؤولية
إذاً، لم يكن اعتماد الدولة على مصرف لبنان «أزلياً»، على الأقلّ في ما خصّ «استنزاف» رياض سلامة أموال المودعين برضى المصارف. ذلك الاستنزاف بدأ عشية الهندسات المالية الشهيرة في 2015-2016 وتفاقم بشكل هستيري لاحقاً. وفي المقالة أيضاً أنه «سبق ووجَّهَت جمعية المصارف كتابين شديدي اللهجة في هذا المجال إلى الحاكم السابق لمصرف لبنان رياض سلامة في 1 نيسان 2021 وفي 4 نيسان 2022، كذلك أصدرت بياناً في هذا الخصوص بتاريخ 8 تموز 2021». وإذا كان «الاتكال أزلياً» برأي واعتقاد أمين عام الجمعية، فلماذا لم تتنبّه الجمعية للأمر إلّا بعد اندلاع الأزمة؟ كلمة «أزلي» تعني أن المصرفيين كانوا على الدوام يعلمون أن مصرف لبنان يتصرّف بأموال المودعين، لكنهم سكتوا طالما مصلحتهم تقتضي السكوت وحصد الفوائد والأرباح، ولم يرسلوا كتب تحذير إلّا بعدما وقعت الفأس في الرأس في 2021. وهذا يؤخذ عليهم بالدرجة الأولى وليس على غيرهم حتى لو كان هذا الغير سلامة نفسه.
القاعدة 10% فإذا بهم يتورطون بـ 70%
كما لا يمكن التسليم معهم برمي المشكلة في حضن الدولة في الوقت الذي غامروا فيه ووظّفوا أكثر من 70% من أموال المودعين في مصرف لبنان عبر شهادات الإيداع، وبشراء استثماري وتجاري لسندات اليوروبوندز طمعاً بفوائدها. وفي الحالتين انكشفت المصارف على الدين السيادي بنسبة انتحارية. فبمجرد تعثر الدولة (مصرف لبنان ضمناً) تعثرت المصارف لسبب بسيط وبديهي مفاده عدم تطبيق قواعد الحصافة والتحوّط ودرس المخاطر عموماً، وخصوصاً مخالفة مواد في قانون النقد والتسليف تمنع الانكشاف على جهة واحدة أكثر من 10%. والأنكى هو أنّ مصرف لبنان ولجنة الرقابة على المصارف المعنيين بتطبيق القانون والحرص على الحيطة والحذر وتجنب المخاطر أغمضا الأعين عمداً عن تلك المخالفة الجسيمة… إن لم نقل الجريمة المتمادية بحق المودعين.
كتب شديدة اللهجة…
مدعاة للضحك على الذقون
أما استخدام خلف عبارة «كتب شديدة اللهجة» لتوصيف رسائل الجمعية الى سلامة فهي مدعاة للضحك. إذ لم يكن باستطاعة الجمعية تمرير عبارة كهذه عندما كان سلامة في سدّة الحاكمية. ومع خروجه بدأت تنبت للمصرفيين أسنان وأظافر، وباتوا شجعاناً يدعون أن باستطاعتهم رفع الصوت بوجه سلامة بعدما كانوا يطأطئون الرأس أمامه، لأنه هو الذي صنع «مجدهم وثرواتهم بالفوائد والعوائد والهندسات والرسملة والإنقاذ من العثرات على حساب المال العام، فضلاً عن طمس تقارير رقابية ودولية تحذيرية وغيرها من الأساليب التي كانت تتخذ أشكالاً قانونية مموّهة، وهي في حقيقة الأمر مشوبة بتسهيل الإثراء غير المشروع، وهذا ما يفترض أن يظهره التدقيق الجنائي تثبيت حقيقة إهدار المال العام وأموال المودعين». وللدلالة على صمتهم المطبق السابق، كان كرّر سلامة عدة مرات في السنوات الماضية وصولاً الى مقابلته التلفزيونية الوداعية الأخيرة «أن مصرف لبنان ردّ الى المصارف مبالغ شهادات الإيداع (فوق 80 مليار دولار) وفوقها 34 ملياراً». رغم فداحة الادّعاء وجسامة تفسيراته الكارثية، لم تطلق المصارف أصوات احتجاج ولا تفنيداً بالأرقام لهذا الادعاء الخطير طيلة أكثر من سنتين، ولم تصدر بيانات تعرّي بالحجج الدامغة افتراءات سلامة على المصارف والمودعين. فقط الشهر الماضي، ومع اقتراب رحيل سلامة، ورد على استحياء في مقالة لأمين عام الجمعية أن تلك «التصريحات كانت تثير البلبلة»!!
إنهم أعداء الإصلاح وفقاً للإتفاق مع صندوق النقد
الى ذلك، تناولت مقالة أمين عام الجمعية أمس قضية الإصلاحات، مشيراً «الى القوانين المتعلقة بإعادة الانتظام المالي وإعادة هيكلة المصارف وغيرها من القوانين التي من دونها لا يستوي إصلاح ولا قيامة للبنان»، وأضاف:» فلنشدّ على يد منصوري، لعلَّنا نرى نهاية النفق في زمنٍ قريب». والسؤال الذي يطرح نفسه هو: عن أي إصلاحات يتحدث المصرفيون، وهم من حاربوا تلك الإصلاحات المطلوبة والمعروفة بالتفصيل الممل منذ 2020؟؟ وهنا أيضاً لا بدّ من التذكير مجدداً بإشادتهم بموقف مصرف لبنان الرافض للكابيتال كونترول أول الأزمة، والتنويه بأنهم اليوم يريدونه فقط لمواجهة قضايا يخسرونها في الخارج تفرض عليهم رد أموال للمودعين هي من حقهم. وليس سرّاً القول إن جمعية المصارف ضد الاتفاق الذي وقّعته حكومة ميقاتي مع صندوق النقد والمتضمّن الإصلاحات العتيدة، لا بل شنّت حملة على نائب رئيس الحكومة سعادة الشامي متّهمة إيّاه بأنه يريد شطب الودائع. فالإصلاحات التي تريدها الجمعية تمرّ عبر تحميل الدولة المسؤولية الأولى عن الخسائر مع طلب استخدام أصول الدولة على نطاق واسع لإطفاء تلك الخسائر، وهذا ما يحذّر منه صندوق النقد بشدة. وتقفز جمعية المصارف فوق الممارسات الدولية السليمة في هذا الصدد، أي تحميل المصارف المسؤولية أولاً من رساميلها، ومن الأموال الخاصة لمساهميها إذا كانوا تورّطوا بإفلاس احتيالي كالذي نحن بصدد إثباته في لبنان.
مقارنة تضليلية مع الأزمة النقدية في الثمانينات
والأنكى أن مقالة أمين عام الجمعية تضرب مثل الانهيار النقدي الذي وقع في الثمانينات من القرن الماضي، وتقول «إن الدولة آنذاك لم تمسّ دولاراً واحداً من أموال المودعين». وفي هذا الاستشهاد تضليل أيضاً، لا بل تزوير للحقائق التاريخية. فأواخر الثمانينات انهارت الليرة، لكن المصارف بقيت صامدة لأن دولارات المودعين كانت لدى البنوك المراسلة، ولم تكن في مصرف لبنان. وكانت سيولة المصارف آنذاك أكثر من 90% مقابل 7% فقط في تشرين 2019. وللشرح: فإن دولارات المودعين في الأزمة الحالية تبدّدت لأن المصارف اختارت وضع معظمها في مصرف لبنان. أما في الثمانينات فكانت تلك الدولارات موظّفة في بنوك عالمية آمنة ومستقرة. وهذا الفرق كبير لو تدري جمعية المصارف؟ وهي تدري لكنها تؤثر ذرّ الرماد في العيون بإجراء مقارنات بين ماضٍ سحيق وحاضر يلتبس فيه كل شيء بتداخل روايات وروايات مضادة عمداً على أمل انطلاء ذلك الخداع على المودعين والرأي العام.
إعترفوا بسعر السوق…
واندثروا فوراً
أخيراً، خصصص أمين عام الجمعية جزءاً كبيراً من مقالته لانتقاد سياسة مصرف لبنان الساعية للدفاع عن سعر صرف الليرة المنهارة مقابل الدولار، واعتبر أن البنك المركزي سجل فشلاً صارخاً على هذا الصعيد، نافياً أي فضل لرياض سلامة في لجم صعود الدولار وخفضه في آذار الماضي من 141 ألف ليرة الى 90 ألفاً، معتبراً ذلك طبيعياً في التذبذبات والتقلّبات لهضم الارتفاعات لفترة قبل عودة الصعود مجدداً. ودفاع الجمعية المستجدّ عن سعر الصرف الحرّ من دون تدخّل من مصرف لبنان يفترض أيضاً قبول الاعتراف بذلك السعر المحرّر في ميزانيات المصارف. وهذا هو السياق المحاسبي الطبيعي المفروض تطبيقه. لكنّ البنوك تفضّل البقاء على السعر الذي حدّده سلامة أي 15 ألف ليرة للدولار، فمعه تبقى الميزانيات تسجل اسمياً قليلاً من الرساميل الباقية ويستمرّ تذويب الودائع بأبخس الأثمان، أما الاعتراف بسعر السوق الحقيقي واعتماد ميزانيات على أساسه فسيظهر ضخامة الخسائر التي ورّطت المصارف نفسها بها بحيث لا يبقى في إعادة الهيكلة إلا مصارف بأقل من عدد أصابع اليد الواحدة وفقاً لمعظم التقارير التي أوردت ذلك السيناريو في حساباتها.
إلى أحبّائنا البنكرجية…
المعركة بأولها
لم يعد رياض سلامة راعياً وحامياً مباشراً للمصارف، لكنها تعرف أن لها في المنظومة نافذين متجذّرين في التسلّط والفساد يرعون مصالحها بأشفار العيون. وما المطالبات المتتالية باستثمار أصول الدولة لردّ الودائع إلّا انتصار من فاسدي المنظومة لأحبائهم البنكرجية من دون حساب ولا مساءلة لمن هدر وأفسد وغامر وأثرى على حساب الدولة والمودعين… لذا، فالمعركة بأوّلها لو تدرون!