لم تلتفت المصارف إلى السجال القانوني الذي اندلع حول كتاب وزارة المال، الهادف إلى تحديد سعر الصرف في تقييم الإيرادات وقيمة النفقات، حسب وزير المال، والذي باتت عملية البت بقانونيته على طاولة مجلس شورى الدولة. فالمصارف لم تعنها يوماً، منذ مطلع الأزمة عام 2019 وحتى اليوم، مخالفة تعاميم أو قرارات، بصرف النظر عن ملاءمتها القوانين والأنظمة المرعية، إنما دأبت على انتهاج الطرق الأكثر ملاءمة لمصالحها الخاصة حصراً. فما هي الخيارات المحتملة أمام مجلس شورى الدولة؟ وما مصير سعر صرف “الدولار المحلي”؟
إسقاط المظلة من فوق المصارف
يعوّل قانونيون على قرار مجلس شورى الدولة المرتقب لإسقاط المظلة المُستحدثة فوق القطاع المصرفي، والتي ستُطلق يده على الودائع المحتجزة لديها أصلاً. وليست الودائع اليوم بمأمن عن انتهاك المصارف، إنما ممارساتها اليوم تندرج في خانة الانتهاكات والمخالفات القانونية. فمن الخطورة تأمين مظلة قانونية لممارساتها تلك.
يقول مصدر قانوني في حديث إلى “المدن” إن وزارة المال بكتابها المتعلّق بتحديد سعر صرف رسمي للنفقات والواردات بالسنوات السابقة واللاحقة، إنما يخالف القانون ويشكّل المظلة الوهمية للمصارف للتمسّك بسعر صرف الـ15000 ليرة للدولار الواحد.
وللتذكير، فإن كتاب وزارة المال المذكور أبلغ مجلس الوزراء بسعر الصرف الذي تعتزم اعتماده لتسجيل القيود المحاسبية لنفقات وواردات الخزينة عن السنوات الماضية واللاحقة مروراً بالسنة الجارية. كما أعلنت الوزارة بصريح العبارة اعتمادها رسمياً ما يُعرف بـ”الدولار المحلّي” المسعّر خلافاً لسعر “الدولار النقدي“.
كتاب المالية دفع بالمحامي باسكال ضاهر، بالأصالة عن نفسه وبالوكالة عن الإعلامي ماريو عبود، إلى جانب المحامي شربل شبير وأحد المدراء السابقين في مصرف لبنان، للتقدّم بمراجعة أمام مجلس شوى الدولة لإبطال كتاب المالية حماية لحقوق المودعين. المراجعة القانونية تلك استدعت رداً وتوضيحاً من وزارة المال أكدت فيه بأن تسعير الدولار عند 15000 ليرة لا يشمل الودائع المصرفية، إنما فقط العمليات المحاسبية للنفقات والواردات.
إلا أن توضيح المالية لم يمنع الطعن ولن يبرّر قرارها، يقول مصدر قانوني. فالقرار وإن لم يتناول مباشرة علاقة المصارف بالمودعين، إلا أنه يشكّل من دون شك سنداً للمصارف لتعزيز سطوتها على أموال المودعين. فوزارة المال ترسّخ بقرارها الأخير سعر الدولار المحلّي عند 15000 ليرة بدءاً من 1 شباط 2023 إلى حين صدور قرار جديد لم يُعرف مصدره أو الجهة المخوّلة إصداره. كما لم يُعرف إن كان سيصدر هكذا قرار. وإلى ذلك الحين تستمر المصارف باعتماد سعر الدولار المحلي عند 15000 ليرة وفرضه على المودعين قسراً.
ينتقد المصدر القانوني رد وزارة المال. فالأخيرة “قامت بتحريف الحقيقة، وهي أرسلت لمجلس الوزراء كتاباً للاستحصال على موافقة شكلية أشبه بالتبليغ”. وقد بُني الطعن على مخالفات جوهرية، أولها مخالفة المبادئ الدستورية العامة والمادة 9 و10 من القانون الصادر عام 83 رقم 120 لمنع تحديد سعر الصرف إلا من خلال السوق الحرة للعملات. على ما يقول القانوني “فنظامنا ليبرالي وليس شمولياً، ولا يحق لوزارة المال أو سواها تحديد سعر الصرف أو التدخّل بالعقود المبرمة بين المواطنين والمصارف“.
مخالفات أخرى تشوب كتاب المالية، حسب المصدر، منها مخالفة المادة 16 من قانون التجارة التي تمنع تعدد الحسابات والقيود المحاسبية. فالوزارة بقرارها باتت كمن تطلب من الدولة والمصارف أن تمسك دفتري حسابات في الوقت عينه. كما أن القرار مخالف لأحكام الوديعة وكيفية ردها، بناء على قانون الموجبات والعقود، التي تفرض استعادة الودائع كما أودعت تماماً وبالعملة نفسها.
هيركات قسري
عملية الاقتطاع من الودائع تفرضها المصارف حالياً بشكل قسري على المودعين، من دون أي مسوّغ قانوني. فهي تفرض هيركات بقيمة تقارب 83 في المئة من كل دولار، من خلال تسعيره عند 15 ألف ليرة بدلاً من سعر الدولار الحقيقي الحالي عند 89500 ليرة.
وفي حين يقر مصدر مصرفي بأن السعر المعمول به حالياً لتسعير دولار الودائع “ربما غير مُنصف”، لكنه يراه الخيار الوحيد أمام المصارف في ظل غياب أي تعميم واضح من مصرف لبنان، يفرض صرف الودائع خلافاً لما هو سائد اليوم، ويحفظ حق المصارف والمودع على السواء”. وإذ يعترف المصرفي بفرض هيركات غير مباشر على المودعين، إلا أنه يرمي بالمسؤولية على السلطة النقدية الممثلة بمصرف لبنان، ومعه السلطة التشريعية، التي لم تصل إلى حل شامل للأزمة في لبنان.
كلام فارغ لا يعكس سوى النية الاحتيالية لدى المصارف، يقول قانوني آخر، ويعكس محاولاتها المستمرة للالتفاف على حقوق المودعين، في ظل قرارات تصدر عن السلطات الرسمية غير قانونية وغير منصفة.
بالمحصلة، إن المواجهة في مجلس الشورى تهدف إلى إسقاط القرار كمظلة للمصارف. وفي الحالتين، فإن المصارف تحتسب للمودعين ودائعهم على 15 الف ليرة للدولار، لكنها تبحث عن مظلة تغطي فيها إجراءاتها المخالفة عملياً وليس قانونياً. فلا قانون يغطي هذه الممارسات. ولكن في حال سقط القرار، فإنه يسقط معه المظلة الوهمية. وبالتالي، تنتظم الملاحقات بحق المصارف.