تعددت محاولات نائب رئيس الحكومة سعادة الشامي وفريقه للوصول الى مشروع معالجة فجوة الخسائر في مصرف لبنان والمصارف، وحماية ما أمكن من أموال المودعين. تمخضت تلك المحاولات في كل مرة عن نسخة جديدة مطورة للمشروع المذكور.
اللافت في النسخة الأخيرة، او تلك المتداولة على أنها الأخيرة، غياب امكان تحويل ودائع الى أسهم في المصارف أو ما يسمى Bail In. كان ذلك متداولاً منذ 2020، وتحديداً في خطة لازار التي اعتمدتها حكومة حسان دياب لا سيما في الجزء الخاص منها بمعالجة مسألة الودائع. ومنذ تلك السنة، كان متوقعاً ان المصارف ترفض (ضمنياً) مبدأ تحويل ودائع كبيرة الى أسهم ملكية لديها. الا ان محاربة الخطة من قبل جمعية المصارف ركزت آنذاك على الاسقاط الكامل لها بمساعدة حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، ثم لجنة المال والموازنة التي تولت تهديم ارقام الحكومة عن الخسائر في مصرف لبنان والقطاع المصرفي.
مع مجيء حكومة نجيب ميقاتي، أعيد بحث مسألة معالجة الفجوة مع تكرار ذكر امكان تحويل ودائع الى اسهم. لكن يبدو ان سعادة الشامي، وتحت ضغط «اللوبي» المصرفي المدعوم نسبياً من رئيس الحكومة نجيب ميقاتي، كما تحت ضغط حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، أراد إعطاء اصحاب المصارف جملة هدايا لعلهم يقبلوا بمشروع سمّي «اعادة التوازن للنظام المالي في لبنان». وبين تلك الهدايا اعتماد مبدأ الودائع المؤهلة وغير المؤهلة، وفكرة انشاء صندوق لاسترداد الودائع. ذلك الصندوق، وبعد حماية مبلغ 100 ألف دولار لكل مودع تدفعها المصارف القابلة للاستمرار، توضع فيه بقية الودائع والتي يفترض انها تبلغ بتاريخ اليوم 75 مليار دولار، على افتراض أن ودائع المائة الف دولار قد تبلغ نحو 20 ملياراً، من اصل إجمالي ودائع دولارية باقية تبلغ نحو 95 او 96 مليار دولار.
لكن لماذا قد يكون الشامي منح المصارف هدية اسقاط خيار تحويل الودائع الى اسهم؟
أولاً: في مشروع اعادة التوازن ذكر لبنود تتصل بمشروع آخر هو مشروع قانون اعادة هيكلة المصارف الذي أعده مصرف لبنان ولجنة الرقابة على المصارف. فهل تركت مسألة الـ Bail In للهيكلة المصرفية؟ اذا كان الجواب «نعم»، لماذا إذاً، على سبيل المثال لا الحصر، توسع الشامي في معالجات مثل شطب الفوائد منذ 2015؟ ولماذا توسع في مسألة الودائع غير المؤهلة علماً بأنها قد ترقى الى فضيحة اخلاقية وقانونية تظلم عشرات الآلاف الذين وثقوا برياض سلامة والمصارف وحولوا ودائعهم بالليرة الى دولار، فيأتي الشامي وبكل عين باردة ليعتبرها غير مؤهلة وطرح ردها بالليرة على أسعار أقل من السعر السوقي الحقيقي للدولار!
ثانياً: ليس سراً ان اصحاب البنوك لا يرغبون برؤية شركاء لهم في ملكياتهم المصرفية. بعدما بنوا امجادهم و»لوبي» نفوذهم وهويتهم الرأسمالية الخاصة على ذلك المجد المصرفي. «مجد» اعطي لهم في لبنان تاريخياً لأسباب خاصة بتركيبة هذا البلد اقتصادياً وفقاً لمنظور سياسي طائفي اقطاعي وتجاري معقد!
ثالثاً: تحويل الودائع الكبيرة الى أسهم ملكية مصرفية قد يغير جذرياً هيكل الملكيات الكبيرة في المصارف اللبنانية. وبالتالي يتحول جزء كبير من رساميل المصارف من اصحابها الحاليين الى مودعين من آفاق وهويات مختلفة. وهنا «ينتعش» حديث غريب عن ان اصحاب مصارف لا يريدون تغيير الهوية الطائفية لبنوكهم (!).
رابعاً: رب سائل لماذا يصر مصرفيون على الإبقاء على ملكياتهم على الرغم من تراجع الناتج 60%، وفقدان ربح أساسي كان يأتي من الدين العام، فضلاً عن أن الأزمة طويلة والانتعاش الكبير المستدام ليس منتظراً في المديين القريب والمتوسط؟ الجواب موجود ضمناً، أو بشكل غير مباشر، في مشروع إعادة التوازن الذي ينص على أن حقوق المودعين (فوق 100 الف دولار) تصدر بها أوراق مالية او سندات. وهناك من يعمل على جعل هذه السندات حق ملكية «مقدساً» في رقبة الحكومة، ما قد يفسر هوس مقولة «الودائع المقدسة» لصاحبها رئيس مجلس النواب نبيه بري. إذ ربما يأتي يوم يربط فيه صندوق الاسترداد بالصندوق السيادي المخصص لإيرادات (محتملة) من النفط والغاز، او سندات تتحول ملكيات بشكل او بآخر في مشاريع ومرافق عامة عرضة للخصخصة او الشراكة بين القطاعين العام والخاص. لذا، وبشكل مرابض ومتحفز، تراهن المصارف منذ الآن على تلك الاحتمالات التي تفتح لها آفاق «بزنس» جديدة بعدما تكون قد اعفيت من رد نحو 80% من الودائع.
التنازلات للمصارف على حساب المودعين مستمرة منذ اليوم الأول لاندلاع الأزمة. وليس مستغرباً، مع منظومة المصالح السياسية والمالية القائمة، تقديم المزيد منها لا سيما في مشروعي قانوني الكابيتال كونترول واعادة هيكلة القطاع.