المصارف تركب الموجة بحملة مدفوعة: اللاجئون سبب خسائرنا!

لطالما كانت العنصريّة والفاشيّة، بما تحملانه من عداء للغريب ودعوة لقمع الحريّات بإسم التصدّي له، مجرّد ستار لشتّى أنواع التشخيصات المريضة والمشوّهة للأزمات المجتمعيّة والاقتصاديّة.

في الملف المالي والملف الرئاسي

على أساس هذه التشخيصات العوجاء، يمكنك أن تقدّم حلولاً وطروحات أكثر اعوجاجًا ووقاحة، وأقل عدالة، طالما أنّ العنوان الرائج والشائع هو حماية الهويّة القوميّة للأمّة، ومكافحة خطر الغرباء الداهم، لا البحث في التشخيصات والحلول المنطقيّة. في السياسة، نأخذ على سبيل المثال من يدعو اليوم لانتخاب رئيس مقرّب من النظام السوري، ليتمكّن من فتح الحوار الكفيل بإعادة اللاجئين. وكأن مسألة عودة اللاجئين باتت لعبة علاقات شخصيّة ومحاباة للرئيس المقبل، لا مشكلة إقليميّة وديموغرافيّة ستخضع لمساومات أكبر من هويّة الرئيس وصنفه.

في الاقتصاد أيضًا، سرعان ما وجدت موجة السعار العنصري من يركبها ويستثمر فيها. المصارف المطوّقة بعبارة “نموذج البونزي الاحتيالي”، التي تستعملها التقارير الدوليّة لتوصيف ما فعلته بأموال المودعين، وجدت في موجة السعار العنصري مخرجًا يسمح بتقديم تشخيص جديد لأزمتها. تشخيص سيكون كفيلًا ب”تضييع الشنكاش” كما يُقال بالعاميّة، وتسويق خرافات مستجدة حول كيفيّة تراكم الخسائر في الميزانيّات المصرفيّة. وعلى أساس هذا التشخيص أيضًا، سيكون بالإمكان وضع أسباب جديدة أكثر إقناعًا لتوزيع الخسائر، وفق النموذج الذي تطرحه اليوم جمعيّة المصارف، وتنقاد باتجاهه معظم أحزاب النظام السياسي.

هذا أخطر ما في موجات السعار العنصري: العمى الذي يدفع المجتمع لقبول ما لم يكن بالإمكان قبوله قبل.

حملة إعلاميّة ممولّة

يذكر جميع اللبنانيين الحملة الإعلاميّة التي بدأت على وسائل التواصل الاجتماعي، حين “ضُبط بالجرم المشهود” ثلاثة أطفال سوريين وهم يسبحون في بركة ساحة سمير قصير، في وسط بيروت. خبر من هذا النوع، كان يفترض أن يكون مدعاة للتندّر والاستهزاء بمن يروّجه، نظرًا لتفاهة ربطه باستباحة المُلك العام، في بلد تستبيح رؤوس الأموال المحظيّة أملاكه العامّة البحريّة والنهريّة. لكن مرّة أخرى: إسمه سُعار عنصري. والسُعار، يحتاج قبل شيء إلى ترهيب المواطن من الغريب، لا تقديم التشخيص المنطقي للأمور.

العودة إلى بدايات تلك الحملة، تُظهر أنّ المنصّات الإلكترونيّة التي أجّجت الموضوع وسوقته منذ اللحظة الأولى، ليست سوى تلك المموّلة من رجل أعمال ومصرفي، اشتهر بتأسيسه وتمويله للّوبي المصرفي النافذ داخل المجلس النيابي والإعلام اللبناني. وفي الوقت نفسه، بدأت هذه المنصّات نفسها بنشر المقالات التي تتحدّث عن “الخسائر” التي تحمّلها ومازال يتحمّلها لبنان، جرّاء الوجود السوري، مع ربط اللجوء السوري بالأزمات النقديّة والماليّة الراهنة، في حملة هوجاء لم تميّز التهريج الاقتصادي عن الكلام العلمي الموزون. في خلاصة الأمر، وكما جاء في إحدى المقالات: لقد تحسّنت أوضاع اللاجئين السوريين على حساب المواطنين اللبنانيين!

حسنًا، يمكن القول أن كل هذا مجرّد ركوب للموجة الشعبويّة. وأن الغاية من تبنّي هذه السرديات ليس سوى زيادة معدّلات القراءة عبر الحديث عن موضوع يشغل بال الرأي العام، ومن زاوية شعبويّة تحرّض القارئ على مشاركة هذه المقالات. وضيق صدر المواطنين بالغرباء، خلال الأزمات الاقتصاديّة، ولو عبر الاقتناع بسرديّات غير علميّة، مسألة شهدتها معظم الدول التي مرّت بأزمات ماليّة.

وفي خلاصة الأمر، يمكن لأحدهم الادعاء بأن هذه الحملة لا علاقة لها بتوجّهات المموّل المصرفي الشهير، ومعاركة الراهنة في مسائل توزيع الخسائر وإعادة هيكلة البنوك. لكن ما سيجري لاحقًا يكشف ما هو أخطر بكثير!

… ثم حملة علاقات عامّة في أوروبا!

تأخذ الأمور منحى آخر، حين تأتي الأخبار من البرلمان الأوروبي ودوائر الإدارة الفرنسيّة، عن جولة يقوم بها “خبراء” يمثّلون “المودعين” في لبنان، لتقديم دراسات عن نتائج النزوح السوري وتداعياته…على المودعين!

ثم يكتشف المراقبون أنّ هؤلاء الخبراء، ليسوا سوى الشخصيًات نفسها التي تجنّدت بعد حملة العلاقات العامّة التي قامت بها المصارف مؤخرًا، لطرح مشروع الصندوق السيادي، الكفيل برسملة المصارف عبر خصخصة أو استثمار الأصول العامّة اللبنانيّة.

وأكثر من ذلك، هؤلاء الخبراء، هم إياهم الشخصيّات التي طلبت المصارف من وسائل الإعلام التقليديّة استضافتهم، مقابل رزم الدعم المالي التي تم تقديمها منذ صيف العام الماضي، لتقديم دراسات ماليّة ممولة من المصارف نفسها (راجع المدن). فما العلاقة بين طرح الصندوق السيادي، وطرح مسؤوليّة اللاجئين؟

السرديّة الجديدة، والقائمة على دراسات هؤلاء “الخبراء”، تقول التالي (وهذا موثّق بالفيديو بالمناسبة): اللاجئ السوري مسؤول عن عدم استعادة المودع لأمواله في المصارف. كان بإمكان المصارف أن تسدد أقساط تصل قيمتها لنحو 10 ألف دولار أميركي شهريًا لكل مودع، لولا اللاجئين. لماذا يا “خبراء”؟ لأن اللاجئين “يأكلون” بنحو 5 مليارات دولار أميركي كل سنة، من أمول المودعين في المصارف! ما أتعس حظ المودعين، بوجود اللاجئين. 5 مليارات دولار كل سنة، عبارة تكفي لتحميل اللاجئين مسؤوليّة كل ما تراكم من خسائر منذ العام 2011…

ولأن اللاجئ هو السبب، فالحل يبدأ بترحيله. لا يغوص هؤلاء بالسؤال عن الوسائل، فهذا ليس بيت القصيد. المطلوب تحديد مسؤوليّة ما للاجئ، وتنتهي القصّة هنا. الأهم لهم هو التالي: على الدولة أن تتحمّل مسؤوليّتها، وتعوّض للمصارف والمودعين (أصبحا في خندق واحد، ضد اللاجئ) ما تم إنفاقه على اللجوء السوري. فطالما أن المليارات ذهبت للاجئين، بقرارات رسميّة، فالعدل يقتضي أن تتحمّل الدولة، أي المال العام، أي نحن دافعو الضرائب، خسائر القطاع المصرفي.

الكذب ملح المصارف

يحتاج المرء إلى كثير من الكلام ليوضّح درجة التضليل في هذه الحملة المسمومة، والممولة من المصارف نفسها، والتي تحوّلت بالمناسبة إلى مجموعة من النكات في دوائر القرار داخل الاتحاد الأوروبي والإدارة الفرنسيّة. فمصرف لبنان لم ينفق العام الماضي أكثر من 2.6 مليار دولار من احتياطاته، فمن أين أتى رقم الخمسة مليار دولار التي يتم إنفاقها على اللاجئين وحدهم كل عام اليوم؟

وعلى أي حال، لم يتم إنفاق ال2.6 مليار دولار على البنية التحتيّة أو دعم الاستيراد، حتّى يُقال أن اللاجئين استفادوا منها. بل تم إنفاق هذه الأموال على منصّة صيرفة، التي استفاد منها عملاء محظيون لبنانيون وأصحاب “وسايط”، بالإضافة إلى موظفي القطاع العام الذين تم تحويل أجورهم للدولار بسعر المنصّة. أي بمعنى آخر: لا علاقة ما بين أموال المودعين وأزمة اللاجئين اليوم.

لكن كذب ودجل المصارف لا ينتهي هنا. ففي المقابل: استفاد مصرف لبنان والقطاع المصرفي من مليارات الدولارات التي وردت من المنظمات الدوليّة للاجئين، والتي تم الاستحواذ عليها بالعملة الصعبة، مقابل سداد قيمتها لمستحقيها بالليرة اللبنانيّة. أي بصورة أوضح، كان القطاع يقلّص وتيرة تراكم خسائره، على حساب اللاجئين أنفسهم، لا العكس.

المصارف وهواجس الهويّة الوطنيّة

كل هذه الأرقام لا تهم اليوم معظم من يسير بركب الموجة العنصريّة التي تستهدف اللاجئين، طالما أن المطلوب من هذه الحملة “تهييج” الرأي العام باتجاه معيّن، بدل إيجاد الحلول والمعالجات المطلوبة لأزمة اللاجئين الموجودة بالفعل. لكن في الوقت نفسه، يمكن الإضاءة على نقطة مهمّة جدًا هنا: لم تكن جمعيّة المصارف عنصريّة، ولا كثيرة الاهتمام بإشكاليّات الهويّة القوميّة، يوم تدفّقت على رساميلها أموال الأجانب والسوريين، ومنهم من أصبح من كبار مالكي المصارف اللبنانيّة.

وهي حتمًا لن تكون عنصريّة حين ينطلق مشروعها لخصخصة واستثمار أصول الدولة، ولن تسأل بالطبع عن هويّة هؤلاء المستثمرين. بل وعلى العكس تمامًا، تنشط لوبيات الجمعيّة نفسها لإغراء دوائر القرار في العواصم الأجنبيّة بمشروع الصندوق السيادي الذي تطرحه، من بوابة الاستثمارات التي يمكن أن تقوم بها الشركات الأجنبيّة في أصول الدولة نفسها.

ببساطة: لا ينطلق كل ما يجري اليوم من أي حس وطني أو “قومي” مسؤول. فدينهم دنانيرهم، لا أكثر ولا أقل. المطلوب اليوم ليس سوى البحث عن فئة هشّة، يمكن تحميلها وزر ارتكابات المرحلة السابقة، وتوزيع الخسائر لاحقًا على هذا الأساس.

مصدرالمدن - علي نور الدين
المادة السابقةلبنان: الأعلى بنسب التضخم في العالم
المقالة القادمةخطاب الكراهية يكبد الاقتصاد اللبناني 3.4 مليار دولار سنوياً