أرخت عمليات اقتحام المصارف بثقلها فوق الإقتصاد المتهالك. ما بعد يوم الجمعة 16 أيلول 2022 لن يكون كما قبله. أصحاب الحقوق كسروا حاجز الخوف، وانطلقوا في مرحلة جديدة بالتعامل مع المصارف لتحصيل حقوقهم. وقد أطلقوا على هذه العملية التي لم تزل بعيدة عن التنظيم، شعار «انتفاضة المودعين في وجه استبداد البنوك». معادلة جديدة الرابح فيها خاسر، وهي أشبه بعضّ الأصابع بين فئة يئست من التسويف والمماطلة، وفئة أخرى غير مستعدة للتسليم بخسارتها مهما تعاظمت المخاطر.
تشير المعلومات إلى أن المصارف لن تبادر إلى فتح أبوابها ما لم تحصل على ضمانات أمنية بعدم تكرار مشهد نهار الجمعة. في المقابل تتّجه جمعيات وروابط المودعين إلى رصّ صفوفها وتنظيمها، بعدما كسبت نقطة تفوّق على «إستبداد» البنوك. وبين الإثنين دولة «ما خلت للصلح مطرح»، وهي لم تزل منذ 3 سنوات تماطل بإقرار خطة تنصف أصحاب الحقوق، مفضلة «تكتيك» حماية مصالح الأقلية من السياسيين وأصحاب المصارف على حساب إنقاذ المودعين والإقتصاد. فهل تكون انتفاضة المودعين «العتلة» التي ترفع الخطة الحكومية بتعديلاتها الأخيرة إلى مستوى الإقرار، أم الشرارة التي ستحرق ما تبقى من يباس الإقتصاد؟
تعمّق الإنهيار
الخبير الإقتصادي والمصرفي إيلي شهوان يميل إلى الخيار الثاني، فما يجري يعزّز برأيه الإنهيار لسببين رئيسيين:
– غياب القرار السياسي لتنفيذ الإصلاحات. فطالما النية غير موجودة، لن تنفع كل التحركات الشعبية مهما كبرت.
– عدم إمكانية خضوع صندوق النقد الدولي للإملاءات المحلية، عكس قناعاته، مهما زادت التحديات والصعوبات الداخلية.
وبرأي شهوان غير المقتنع بعفويّة التحركات التي جرت نهاية الأسبوع الماضي، إن «إعادة فتح البنوك أبوابها ستعرضها إلى المزيد من الإقتحامات. وفي حال كانت هذه العمليات غير منظّمة كما يقال، فهي ستشجّع حتماً المودعين على استرداد ودائعهم بالقوة. خصوصاً مع انتفاء رادع العقاب. حيث لا يتخطّى احتجاز المقتحمين في النظارات أياماً قليلة، قبل أن يصار إلى إطلاق سراحهم». وبحسب شهوان فإن «النتيجة لهذه التحركات، وما يرافقها من إقفال للمصارف لا تصبّ في مصلحة أحد. وعلى الحكومة ومصرف لبنان والمصارف التجارية تحمّل مسؤولياتهم في معالجة التداعيات الخطيرة، نظراً لمشاركتهم بالهندسات المالية أولاً ومعرفتهم بالنتائج سلفاً».
تداعيات الإقفال
إفتراض السيناريو الأسوأ المتعلق باستمرار الإقتحامات، وإقفال البنوك في المقابل سينتج عنه تداعيات بالغة الخطورة ومنها:
– زيادة الطلب على الدولار من السوق الموازية، مع ما يعنيه ذلك من ارتفاع سعره مقابل الليرة. فحجم التعامل على منصة صيرفة سينخفض حكماً مع إقفال البنوك، وعدم تيسّر تنفيذ المعاملات عبر الصرّافات الآلية بسبب إقفالها في الكثير من المناطق داخل الخزنات الحديدية، أو وضعها خارج الخدمة عمداً أو بسبب انقطاع التيار الكهربائي.
– توقف الحوالات المصرفية من وإلى لبنان.
– توقف عمليات فتح الاعتمادات المستندية letter of credit – LC. الأمر الذي ينعكس حكماً على المبادلات التجارية.
– إمكانية أن تشهد السوق نقصاً في المحروقات بسبب توقف المصارف عن فتح الإعتمادات من جهة، واستيراد التجار كميات قليلة نتيجة ارتفاع الأسعار من الجهة الثانية. وبالتالي العودة إلى «طوابير الذل».
رفض تحمّل الخسارة
أمام كلّ التحديات التي تعصف بالاقتصاد والمودعين يرى الباحث الاقتصادي وأستاذ التمويل في الجامعة الأميركية محمد فاعور أن «إضراب المصارف هو محاولة ابتزاز، مرتبطة برفض المصارف الخطة الاقتصادية الأخيرة الصادرة عن الحكومة. وذلك في إطار رفضها كل الخطط الاقتصادية التي تحمّلها خسائر من رساميلها، ابتداء من لازارد (2020)، وصولاً إلى خطة الوزير سعادة الشامي». فالخطة الأخيرة، وإن قضت بإنشاء صندوق لاسترداد الودائع، أو ما يعني تعويض المودعين من المال العام، فـ»هي ما زالت تمسّ برؤوس أموال المصارف بشكل أساسي»، من وجهة نظر فاعور. و»هو ما ترفضه المصارف جملة وتفصيلاً. وقد تصدّت وستتصدّى لكل توزيع للخسائر يقوم على تراتبية المسؤوليات، التي تقضي بتحمّل المصارف الخسائر من رساميلها أولاً، قبل الاقتطاع من الودائع. وأي خطة تقضي بشطب رأسمالها سترفضها مهما كانت عادلة أو ضرورية للخروج من الإنهيار. فاعور الذي يرى أن إقفال المصارف هو نتيجة حتمية، لهذه الصورة الكبيرة، يعتبر أن «تداعياته تفصيلية بالنظر إلى المخاطر العامة المحدقة بالإقتصاد والمودعين على حد سواء.» وبرأيه إن «ما حصل من اقتحامات للمصارف هو نتيجة المماطلة المتعمّدة من البنوك ورفضها أي خطة توزّع الخسائر بشكل عادل، وتفضيلها «الستاتيكو» الحالي». بمعنى استمرارها كـ»زومبي بنك» يستنزف ما تبقّى من ودائع على أسعار صرف غير حقيقية وبتمويل من مصرف لبنان.
رفض اقتطاع الفوائد
على الرغم من تضمين الخطة صندوق تعويض المودعين من فائض الملك العام، فإن «الخطة الحكومية مبنية أيضاً على شطب بعض الخسائر بين الدولة والمصارف، ولا سيما في ما يتعلق بفرق احتساب سعر الصرف»، برأي المستشار المالي د. غسان شماس. «فمن حيث المبدأ تريد المصارف أن تتحمل الدولة مسؤولية ديونها، لكي تظهر البنوك متعافية أمام دائنيها أي المودعين، لكن الدولة ستعمد إلى شطب الفوائد على الودائع، أو إعطائها على سعر صرف غير حقيقي». وبرأي شماس فإن «إعادة النظر بالفوائد المدفوعة عن السنوات السابقة لمدة 10 إلى 15 سنة، يعني أن المئة مليار دولار المتراكمة كودائع ستصبح 20 أو 30 ملياراً بالحد الأقصى. ويمكن الإستدلال على ذلك بسهولة من خلال احتساب أن نسبة الفوائد التي دفعت هي 7.5 في المئة، كي لا نقول 13 و15 في المئة. وعليه فستجبر البنوك على اقتطاع ما لا يقل عن ثلثي حسابات مودعيها على أساس أنها تعود إلى فوائد مجحفة أو خلافه من التبريرات التي تساق». وبرأي شماس فإن «الرسالة من وراء إقفال المصارف لمدة ثلاثة أيام، قد تطول حسب التطورات، هو لإظهارها بمظهر المتّحد وراء كلمة جمعيتها في مواجهة الأخطار المحدقة بها. وبالتالي فإن إضرابها هو إشعار أمام جمهورها والدولة والجهات الدولية أنها واحدة موحّدة».
تتعدّد أسباب الإقفال والنتيجة واحدة: تعميق الدوران في الحلقة المفرغة التي كما يظهر لغاية الآن لا مخرج منها.