سيبدو الأمر في غاية البراءة في البداية. فقرة قصيرة تمر برشاقة بين فقرات النشرة الأخباريّة، أو البرامج الحواريّة، لنشر الثقافة الاقتصاديّة، على لسان مذيعة إخباريّة. والثقافة الاقتصاديّة، باتت حاجة ملحّة في الزمن الذي يختلط فيه حابل التعثّر المصرفي بنابل خسائر مصرف لبنان ودين الدولة السيادي، وتدهور سعر صرف العملة المحليّة، فيما تتعدد التحليلات وتتناقض، التي يحاول كلّ منها أن يقنع الجمهور برأي ما بخصوص توزّع المسؤوليّات. وما أحوج المودع بالتحديد لهذا النوع من الفقرات التثقيفيّة، في الزمن الذي يخبره الجميع عن أهميّة الكابيتال كونترول، ثم يحذّره الجميع أيضًا من خطورة الكابيتال كونترول بالصيغة المطروحة اليوم. إنّها طلاسم الاقتصاد حين يتداخل بالسياسة والمال ومصالح النخبة.
رسائل ملغومة
ستبدأ شيئًا فشيئًا بالالتفات إلى نوعيّة الرسائل التي تحاول هذه الفقرة تمريرها، بمصطلحات وشعارات وتحليلات تعرف جيّدًا من يستفيد منها، في معركة توزيع الخسائر التي تدور رحاها منذ ثلاث سنوات. تسأل المذيعة عن جدوى المطالبة بتسييل أصول المصارف، لسداد الودائع، في الوقت الذي تملك فيه الدولة اللبنانيّة كتلة ضخمة من الأملاك التي يمكن “إدارتها من القطاع الخاص” لتكوين إيرادات تسهم في “الخروج من الأزمة”. هي الدولة إذًا، عميل القطاع المصرفي، المدين الأكبر. عندها الأملاك وعندها مفتاح الخروج من الأزمة.
طبعًا، ثمّة عشرات الأبحاث التي فسّرت الفرق بين الدين العام، الذي سيُعاد هيكلته، وكتلة الخسائر التي تحول دون سداد أموال المودعين، والتي نتجت عن عمليّات بينيّة جرت داخل ميزانيّات مصرف لبنان والمصارف التجاريّة. وثمّة عشرات الأوراق البحثيّة التي فسّرت خطورة رهن رسوم المرافق العامّة والإيرادات الضريبيّة، لعقود من الزمن، لسداد كتلة خسائر تقارب قيمتها ثلاث مرّات حجم الاقتصاد المحلّي. وثمّة مؤسسات دوليّة، منها البنك الدولي وصندوق النقد، أمضت ثلاث سنوات وهي تحذّر من هذا النوع من الأفكار، وخصوصًا لجهة أثرها على تركيز الثروة بيد القلّة وحرمان الدولة من مواردها وإفقار الغالبيّة الساحقة من اللبنانيين، مقابل تحييد حملة الأسهم في المصارف عن معادلة توزيع الخسائر.
كاتب الفقرة إذًا، يمرّر في حلقات “التثقيف الاقتصادي” بالمكر نفسه لرسائل جمعيّة المصارف المعهودة، بل بالأحرى مطالبها في ما يخص توزيع الخسائر، والتي عرقلت جميع الحلول منذ ثلاث سنوات ولغاية اليوم. وما يقوم به كاتب الفقرة، هو ترويج فجّ لبروباغندا مصرفيّة، أكثر مما هو تثقيف اقتصادي علمي ومنطقي.
وهذا لا يرتبط بمعادلة توزيع الخسائر فقط، بل بمسائل أخرى: من الكابيتال كونترول إلى الدعاوى ضد المصارف في الخارج وخطورتها، و”الدولارات الجديدة” والدور الذي تلعبه، وإدارة احتياطات مصرف لبنان وغيره. وكل هذه الرسائل، تمرّر بشكل سلس ضمن مجموعة من المواد المتفرّقة التي تتناول مسائل أخرى لا علاقة بالمصارف، كمسألة إعادة تدوير النفايات واللامركزيّة الإداريّة. حسنًا، إنّه الخطاب المهيمن في الإعلام التقليدي، وثمّة ما يدعو إلى الحنق والانزعاج ربما، لكن المسألة مفهومة، ولا يوجد ما يدعو إلى التوجّس من “مؤامرة” ما عند هذا الحد.
حملة علاقات عامّة
إلا أنّ التوجّس الفعلي يبدأ حين تدرك أن الفقرة التثقيفيّة نفسها، وبالمضمون نفسه، يتم عرضها عبر عدّة محطات تلفزيونية ومواقع إلكترونيّة في الوقت نفسه. هل هو إنتاج مشترك بين جميع هذه المنصّات والقنوات التلفزيونيّة؟ هل هو إنتاج لمنظمة غير حكوميّة ما؟ حتمًا لا. لو كان الحال كذلك، لكان من المفترض أن يظهر خلال الفقرة توقيع ما، أو لوغو، أو تبنٍّ لهذه الحملة اللقيطة التي تخشى –لسبب ما- من الإعلان عن أبيها وأمّها ومنتجها وشاري مساحتها على الهواء.
ثم تدرك أن ما تشاهده ليس سوى حملة علاقات عامّة مصرفيّة، مدفوعة الثمن، وبالدولار النقدي. ثمّة توجّه مصرفي قضى بدس سم البروباغندا المخادعة في عسل التثقيف الاقتصادي، من خلال فقرات إعلاميّة لا تصارح المشاهد بهويّة منتجها ولا عقلها المدبّر. وبحملة تسوّق نفسها على أنّها مادّة إعلاميّة عاديّة، يعرضها التلفزيون بين نشرات الأخبار والبرامج الحواريّة، لا كإعلان صريح مدفوع الثمن.
هنا، يصبح التوجّس مباحًا. فعرض البروباغندا مدفوعة الثمن، كمواد إعلاميّة عاديّة، مسألة تنطوي على خداع للمشاهد، الذي لا يتلقّف هذه المواد كترويج دعائي، بل كبرامج محايدة. مع الإشارة إلى أنّ القانون اللبناني يحظر هذا النوع من الممارسات، ويفرض تمييز المواد الدعائيّة عن المواد الإعلاميّة العاديّة بالشكل، من الناحيتين البصريّة والسمعيّة. بل ويفرض القانون أيضًا أن لا يتم استخدام وجوه وأصوات الأشخاص الذين يقدمون الأخبار في هذه الأعلانات، بخلاف ما قامت به هذه الحملة.
لائحة أسئلة محرجة
ثم تطول لائحة الأسئلة المباحة هنا: هل يحق لمصارف متعثّرة، لا تملك قدرة السداد للمودعين، أن تستخدم ما تبقى من أموالها لدفع ثمن هذا النوع من الحملات الإعلانيّة؟ أليس من المفترض أن تخضع هذه المؤسسات لإجراءات تنظّم استعمال ما تبقى من سيولة، وبعدل بين الدائنين (المودعين)، بدل أن تستعملها في هذا النوع من الحملات؟ فكيف الحال إذا كانت غاية هذه الحملات دس البروباغندا التي تخدم مصالحها، في وجه مصالح المودعين؟ هل سألت لجنة الرقابة على المصارف عن هذا الأمر؟
ثم تسأل: هل يحق للمصارف استعمال دولاراتها على هذا النحو، في الوقت الذي تستشرس فيه لجمع الدولارات من السوق الموازي بكل الأساليب المشروعة وغير المشروعة؟ هل من المنطقي أن نحمّل قيمة عملتنا المحليّة ثمن جمع الدولارات بهذا الشكل، لمصلحة مؤسسات تستعمل العملة الصعبة لهذه الغاية؟ فكيف الحال إذا كانت غاية الحملات الترويج لمقترحات مناهضة لمصالح هذه المجتمع واقتصاده ودولته؟
ثم تبدأ الأخبار بالتواتر: الحملة ليست سوى جزء من استراتيجيّة علاقات عامّة مدفوعة تقوم بها المصارف منذ أكثر من شهرين، ولغاية تسويق سرديّتها وأولويّاتها في ما يتعلّق بتوزيع المسؤوليّات والخسائر. وهذه الحملة، تأتي كردّ فعل هجوميّ، بعد أن احترقت خلال المرحلة الماضية الكثير من مقترحات وسرديّات المصارف، وخصوصًا تلك التي تطالب بوضع اليد على مرافق الدولة العامّة وتحميل الرسوم والمال العام كلفة سداد فجوة الخسائر.
ثم تعرف أن حملة العلاقات العامّة لم تقف عند حدود بث فقرة إعلاميّة. بل شملت الطلب من بعض البرامج والمؤسسات الإعلاميّة تناول مواضيع محددة في الحوارات التلفزيونيّة، واستضافة قائمة من “الخبراء” الاقتصاديين القادرين على تناول هذه المسائل كما ترغب المصارف، مقابل استبعاد “قائمة سوداء” من الخبراء. وحتّى اللحظة، لا يوجد ما يؤكّد أو ينفي استجابة الوسائل الإعلاميّة لشرط “القائمة السوداء”، لكنّ الأكيد هو أنّ الحملة شملت بالفعل هذا النوع من الطلبات شفهيًّا.
في أوساط إعلاميّة متعددة، ثمّة نقاش كبير حول حملة العلاقات العامّة الأخيرة، وخصوصًا لجهة الطلبات الفجّة التي وجهتها المصارف، والتي تدخّلت بنوعيّة ضيوف البرامج الحواريّة. لكن الأهم، هو أن هذه الحملة المدفوعة الثمن تأتي في وقت حسّاس، بعد إحالة خطّة التعافي الأخيرة إلى التقاعد بحكم الأمر الواقع، والاتجاه إلى إعادة النظر بمعادلات توزيع الخسائر التي تضمّنها. إنها “ريمونتادا” إعلاميّة مصرفيّة لا يمكن تجاهلها.