غياب الدولة الفاضح، ونأيها بنفسها عن مطالب المواطنين وهمومهم الحياتية، دفع قسماً كبيراً من الشركات والأفراد إلى مقاطعتها، مع من تُظهره الأيام شريكاً في إذلالهم. فمن بعد الإعلان عن حملة “القطاع الخاص – خط أحمر”، التي دعت الشركات من خلالها إلى تجميد دفع الضرائب، لحين تنفيذ خطة إنقاذية للبلاد، أطلقت مجموعة من الناشطين حملة “مش دافعين”، لحثّ المواطنين والمقترضين على التوقف عن دفع الضرائب وتسديد بعض القروض، كنوع من العصيان المدني حتى تحقيق المطالب.
التوقّف عن الدفع للدولة أولاً والمصارف ثانياً، لا يتعلّق بحسب أحد الناشطين في حملة “مش دافعين” بعدم الرغبة في الدفع، بل بسبب انعدام القدرة، خصوصاً بعدما أصبح 80 في المئة من موظفي القطاع الخاص يعملون بنصف دوام ونصف راتب. ناشط آخر يرى ان “على كل المواطنين التوقف عن تسديد ضرائبهم ومستحقات القروض المصرفية وبطاقات الإعتماد فوراً، لأن عائدات الضرائب تُسرق، وأموال المصارف تذهب إلى بعض المحظيين المتواطئين مع البنوك وتهرّب إلى الخارج”.
توقّف الدفع… حقّ
“أيهما أحقّ ان يدفع المواطن ضرائبه ويسدد قروضه، أم يؤمّن أبسط حقوقه كإنسان، التي تتعلق في المأكل والمشرب؟”، يسأل المحامي واصف الحركة ليقول “ان رفض الدفع انطلق من قيم انسانية تكفلها القوانين والدساتير وشرعة حقوق الإنسان، خصوصاً ان الامتناع لا ينطلق من سوء نية، إنما من عدم قدرة، مترافق مع ضرب الدولة لأبسط الحقوق الإنسانية والقيم المتوافقة مع الإعلان العالمي لحقوق الانسان”.
التمنع عن الدفع ليس عشوائياً، بل تقف وراءه شخصيات معروفة، وهو محدد الأهداف ومرتبط بفترة زمنية محددة ومشروطة، وينقسم إلى شقين:
الأول، يتعلق بالقروض الشخصية للمصارف، وتحديداً قروض الإسكان والتعليم والنقل. كونها قروض بفوائد مرتفعة ومركبة نتجت عن غياب الدولة الفاضح وتقصيرها في تأمين حقوق مواطنيها، من سكن لائق وتعليم مجاني ونقل عام منظم.
الثاني، يتعلق بالضرائب والرسوم، أو “الطغيان” الضرائبي” وتحديداً على الكهرباء والميكانيك والرسوم البلدية وضريبة الاملاك المبنية.
الفوائد ترتفع والتضامن واجب
التمنّع عن الدفع يعتبر بحسب حملة “مش دافعين” خرقاً واعياً ومتعمداً للقوانين، ويندرج في خانة العصيان الجزئي تحضيراً للعصيان المدني الكبير. وهو يترافق مع تقديم مجموعة من مشاريع القوانين الحمائية، تتعلّق بإعادة جدولة الديون، كأن تحسم كل الفوائد عن القروض التي يسدد أصحابها ربع قيمة القرض، وإلغاء القروض التي سدد 60 في المئة من قيمتها، وتخفيض الفوائد وتحويل القروض المقوّمة بالدولار الى الليرة اللبنانية، وإعفاء المقترضين من التسديد لمدة سنة. وبحسب الحركة فإن “أكثر ما يتطلبه هذا النوع من الامتناع هو تضامن من يستطيع ان يدفع مع من لا يستطيع، لكي لا يتم الإستفراد بالطبقات الضعيفة من قبل الدولة والمصارف”.
وفي حال لم تتم تلبية المطالب بتشكيل حكومة قادرة تقدّم الهمّ الإصلاحي على المنافع الشخصية، وعودة المصارف الى رشدها وتخفيض الفوائد وفك حجزها لودائع صغار المواطنين، فإن هذه الحالة سوف تتصاعد للوصول الى المواجهة الكبيرة أي العصيان المدني الشامل”.
في الوقت الذي تكبر فيه حملة “مش دافعين” ككرة الثلج، يستمر تعاظم منطق “مش فارقة معنا” في الدولة والمصارف. وبدلاً من إسراع المصارف إلى تخفيض الفوائد على القروض كنتيجة طبيعية لتخفيض مصرف لبنان الفوائد على الودائع، قامت برفعها ثلاثة أضعاف على قطاع الإنتاج. “فالتسهيلات التي كنّا نأخذها كشركات ارتفعت من 7 إلى 22 في المئة، وهو ما يُعتبر أمراً تعجيزياً ومقوضاً لكل الجهود التي تبذل في سبيل الإستمرار، خصوصاً في ظل هذه الظروف التي يمر بها الإقتصاد والصعوبات على القطاع الخاص”، يلفت أحد مؤسسي مبادرة “القطاع الخاص – خط أحمر”، وضاح الصادق.
إجازة… ونتائج قاسية
أكثر من 1500 شركة مع عشرات الآلاف من الموظفين المنضوين تحت سقف المبادرة، طلبوا منذ أربعة أيام موعداً من رئيس “جمعية المصارف” سليم صفير لشرح واقع القطاع الخاص والتفاوض معه على النقاط الإشكالية التي تتعلّق بإعادة جدوَلة قروض الموظفين والشركات وتخفيض الفوائد وإعطاء فترة إعفاء… وذلك لما فيه مصلحة الشركات والموظفين والمصارف، فكان الجواب إن الرئيس في إجازة لغاية 15 كانون الثاني من العام المقبل، “فاذا كان الجواب صحيحاً فهو مشكلة، لأن البلد ينهار قطاعاً وراء آخر وأحد أبرز المسؤولين عن كل المشاكل في إجازة، وإن كان تهرباً فهو مشكلة أكبر، لأن الامور لا تحتمل الهروب والمواربة بل الصراحة والتعاون”، يوضح صادق.
عضو هيئة مكتب المجلس الإقتصادي والإجتماعي د. أنيس أبو دياب يرى إن “حملة المقاطعة تبدأ بتشكيل خطر على المصارف والدولة في حال تجاوزت نسبة المقاطعين الـ25 إلى 30 في المئة”. ويعتقد ان “التمنّع عن دفع الضرائب للدولة ستكون نتائجه أكبر وأقسى، خصوصاً ان معظم المتأخرات تجري عليها تسويات بعد فترة زمنية محددة. وهو ما سينعكس على تراجع إيرادات الدولة آنياً ويشكل خطراً كبيراً على ماليتها. أما في ما يتعلق بالمصارف فيستبعد أبو دياب ان يتمنّع المقترضون عن السداد، بل سيحاولون قدر المستطاع إعادة جدوَلة ديونهم.
عودة الوضوح والصراحة إلى العلاقة بين القطاع الخاص والمصارف، وتنازل الأخيرة والإصغاء إلى هواجس المواطنين وهمومهم والتجاوب مع مطالبهم المحقة، وتحديداً في موضوع تخفيض الفوائد وإعادة جدولة الديون، تُعتبر اليوم مطلباً أساسياً. فعدد منالمصارف الكبيرة راكمت خلال السنوات العشر الأخيرة أكثر من 49 مليار دولار من الأرباح، وعليها اليوم بحسب جميع الآراء التوقف عن هاجس الربح والتضامن مع بقية مكوّنات المجتمع لتمرير الأزمة لما فيه مصلحتها ومصلحة الوطن والمواطن.