المصارف تعرقل تعاميم المركزي: بانتظار رحيل سلامة؟

يوم الإثنين، كان من المفترض أن يدخل التعميم 165 حيّز التنفيذ، ليكون بإمكان المصارف أن تجري التحويلات في ما بينها، وبالدولارات والليرات “الجديدة” (الفريش)، من خلال مقاصّة وحسابات خاصّة داخل مصرف لبنان. وكان المفترض أيضًا أن تكون المصارف أنجزت فتح حساباتها المخصّصة لهذه العمليّات، لدى المصرف المركزي، في 10 أيّار الماضي، أي منذ أكثر من شهر كامل. وعلى هذا الأساس، كان يجب أن تكون المصارف قد أصدرت دفاتر شيكات جديدة وبطاقات مصرفيّة تعمل في مراكز الدفع التجاريّة، بالدولار أو الليرات الفريش، وبالاعتماد على آليّة الدفع التي يحددها هذا التعميم.

لكن جولة صغيرة على المصارف اللبنانيّة، سرعان ما تظهر أنّ الغالبيّة الساحقة من المصارف لم تُنجز بعد أنظمة المعلوماتيّة والتعليمات الإداريّة التي ترعى تطبيق التعميم 165. وحتّى اللحظة، لم تقدّم هذه المصارف أي دفاتر شيكات أو بطاقات أو حتّى خدمات خاصّة للتحويل المالي، وفقًا لمندرجات التعميم. ومن يريد إجراء تحويلات إلى مصرف لبناني آخر، من حسابات الدولار الفريش الموجودة أساسًا، فعلى التحويل أن يعبر بالمصارف الأميركيّة المراسلة وكأنه تحويل خارجي، تمامًا كما هو الحال منذ بدء الأزمة النقديّة.

حجج غير مقنعة

من الناحية العمليّة، ما نفذّته المصارف من مندرجات التعميم هو فتح الحسابات المخصّصة لآليّات التحويل داخل مصرف لبنان فقط، من دون تنفيذ أي خطوة تكفل استعمال هذه الحسابات. وبما أنّ التعميم يُعنى بآليّات التحويل بين المصارف، فعدم تنفيذه من قبل معظم المصارف يعني تلقائيًا تجميد تنفيذه في كلّ القطاع المصرفي من دون استثناء. فحتّى لو أبدت القليل من المصارف بعض التجاوب مع التعميم، لن يكون بإمكانها تنفيذ التحويلات عبر مصرف لبنان ما لم يكن العملاء أكيدين من قدرة المصرف المتلقي على استقبال هذا التحويل عبر مصرف لبنان.

الحجج التي قدّمتها المصارف لعملائها لعدم تقديم خدمات التعميم 165، تركّزت على عدم جهوزيّتها من ناحية الأنظمة المعلوماتيّة والآليّات التطبيقيّة، وحاجاتها إلى بعض الوقت لتحضير هذه الأنظمة. إلا أنّ العارفين بتقنيّات العمل المصرفي يدركون هزالة هذه الحجج بالتحديد. فتنفيذ التعميم لم يكن يحتاج سوى لتطبيق أنظمة المعلوماتيّة المعتمدة للمقاصّة القديمة (اللولار) نفسها، على المقاصّة الجديدة، والحسابات الخاصّة بهذه التحويلات باتت جاهزة أصلًا في مصرف لبنان. أما خلق المنتجات الماليّة التي تعمل وفق آليّة التحويل هذه، كالشيكات والبطاقات مثلًا، فسيحتاج إلى بعض الموارد الماليّة والبشريّة، لكنّه لم يكن ليستلزم الكثير من الوقت.

مع الإشارة إلى أنّ حاكم مصرف لبنان كان أصدر التعميم 165 منذ 19 نيسان الماضي، ما أعطى المصارف ثمانية أسابيع لتنفيذ مهمّة ربط الحسابات الجديدة بالمقاصّة التي استحدثها مصرف لبنان. ومن المعلوم أن التعميم حدّد أساسًا قواعد عمل المقاصّة الجديدة، بما فيها ساعات عملها وأوقات تسوية الحسابات بين المصارف وتنفيذ التحويلات، ومواعيد إقفال المقاصّة كل يوم. ولذلك، لم تكن المصارف تواجه أي تعقيدات جديّة في عمليّة تنفيذ مندرجات التعميم.

انتظار رحيل الحاكم؟

تشير مصادر مصرفيّة متابعة للملف أنّ العديد من إدارات المصارف تتباطأ في تنفيذ مندرجات هذا التعميم، أو في تخصيص ما يلزم من موارد ماليّة وبشريّة لإنجاحه، خشية حصول تغيّرات في توجّهات المصرف المركزي بعد أسابيع قليلة، مع حصول عمليّة التسلّم والتسليم في الحاكميّة. وإذا كان ربط الحسابات “الفريش” بالمقاصّة الجديدة لا يحتاج إلى كثير من الوقت والجهد، كما ذكرنا سابقًا، فتجهيز منتجات ماليّة جديدة وفقًا لهذه الآليّة –كبطاقات ونقاط الدفع مثلاً- سيحتاج إلى تخصيص موارد ماليّة وبشريّة معيّنة، وهو ما يستلزم وجود جدوى ماديّة من الاستثمار بآليّات التعميم الجديدة.

وكان التعميم نفسه، الذي يصب في مصلحة المصارف بشكل من الأشكال، مثّل قضيّة إشكاليّة طوال الفترة الماضية قبل صدوره، بالنظر إلى بعض مفاعيله التي تفصل ما بين حركة الأموال الجديدة وحركة الأموال القديمة داخل مصرف لبنان. ولهذا السبب، لا ترغب المصارف بالتضحية كثيرًا في سبيل إنجاح التعميم في الوقت الراهن، إذا لم تكن أكيدة أنّ هذه التدابير ستبقى فاعلة على المدى الطويل.

السيناريو المرجّح حسب هذه المصادر، هو انتقال المصارف تدريجيًا إلى تطبيق التعميم، لكن بخطوات بطيئة وبأقل قدر ممكن من الجهد. وقد يقتصر تنفيذه في المرحلة الأولى على تنفيذ بعض التحويلات، أو إصدار دفاتر خاصّة للشيكات، من دون التوسّع في استعمال التعميم لإجراء التقاص المتعلّق بالبطاقات المصرفيّة ووسائل الدفع. أمّا تبنّي نظام الدفع الجديد بشكل كامل، فقد ينتظر تأكّد المصارف من استقرار آليّات تنفيذه في مصرف لبنان، لتقليص أي تعقيدات قد تنتج لاحقًا عن تعديل نظام الدفع في المستقبل.

تعقيدات أخرى

وتجدر الإشارة إلى أنّ تطبيق التعميم الجديد سيفرض على المصارف بعض التعقيدات الإضافيّة في معايير الإفصاح المحاسبي المعتمدة من قبلها، والتي تتسم أصلًا بتشوّهات كبيرة في الوقت الحاضر. ففي بند توظيفات المصارف في مصرف لبنان، ستختلط حساباتها القديمة التي يتم استعمالها بحسب التعاميم 151 و158 بأسعار صرف غير واقعيّة، والتي ترتبط أيضًا بنسبة وازنة من الخسائر غير المصرّح عنها بعد، بالدولارات الجديدة التي يتم استعمالها لتنفيذ التعميم 165، والتي يتم استعمالها بالكامل كدولارات نقديّة، تمامًا كحسابات المصارف لدى المصارف المراسلة.

وفي الحالتين، ستصرّح المصارف عن كامل هذه الموجودات في الميزانيّات وفق سعر الصرف الرسمي، إلا أنّ تدقيق ملاءة وسيولة المصارف ستتسم بدرجة أكبر من العشوائيّة، بعد خلط الحسابات الجديدة والقديمة في بند التوظيفات لدى المصرف المركزي، بخلاف سائر بنود الموجودات التي يمكن تقدير قيمتها ووضعيتها بشكل أوضح. مع الإشارة إلى أنّ المعايير المحاسبيّة العالميّة ستتطلّب تكوين مؤونات معيّنة مقابل بعض الخسائر المقدّرة في توظيفات المصارف، ومنها تلك المرتبطة بحساباتها القديمة لدى مصرف لبنان.

في خلاصة الأمر، يبدو أن الجميع يتحسّب لمرحلة ما بعد شهر تمّوز، وما يمكن أن يطرأ من تنظيمات جديدة على القطاع المصرفي، الذي حكمته طوال الفترة الماضية رؤية رياض سلامة لمعالجة تداعيات الانهيار. لكنّ الاستحقاق الأهم، سيكون اعتماد الصيغة الأخيرة من خطّة التعافي المالي، التي يفترض أن تحدد كيفيّة التعامل مع خسائر مصرف لبنان، وكيفيّة فك الترابط بين ميزانيّة المصرف المركزي وميزانيّات المصارف التجاريّة. وحتّى ذلك الوقت، ستبقى كل الإجراءات الماليّة مجرّد تدابير مؤقتّة لإدارة الانهيار لا معالجته.

مصدرالمدن - علي نور الدين
المادة السابقةسباق أوروبي لنقل الكهرباء النظيفة من صحاري شمال أفريقيا
المقالة القادمةملايين الدولارات: شركات أدوية عالمية تحتجز مستحقات الصيادلة