لم يكن من قبيل المصادفة أن يتزامن ارتفاع الدولار إلى أعلى مستوى له على الإطلاق، أي إلى ما فوق 34 ألف ليرة للدولار، مع صدور بيان جمعيّة المصارف صباح الثلاثاء 24 أيار، الذي حمل أعلى نبرة تصعيدية وتحريضيّة ضد خطّة التعافي المالي، التي وافقت عليها حكومة ميقاتي في نهاية الأسبوع الماضي. وعلاقة التطوّرين معًا لا ترتبط فقط بتوتّر الأسواق من نبرة البيان التحريضي والتصعيدي، بل ترتبط أيضًا بالخطوات العمليّة التي بدأت الجمعيّة باتخاذها، للضغط على الحكومة والمجتمع اللبناني بأسره، لفرض تنازلات معيّنة في موضوع الخطّة الماليّة. وهنا، تقاطعت خطوات المصارف اللبنانيّة مع بعض إجراءات المركزي الناتجة عن الشح في دولارته، لتتفاقم أزمة سعر الصرف، رغم التباين الواضح بين المصرف المركزي والمصارف في ملف خطة التصحيح المالي بالتحديد.
خطة التعافي المالي وعفاريت جمعيّة المصارف
صدّقت الحكومة وبشكل رسمي على خطّة التعافي المالي، بما تضمّنته من بنود فرضها صندوق النقد، على نحو يتضارب مع مصالح أصحاب المصارف. فوفقًا للخطّة، استخدام الأموال العامّة لإطفاء خسائر المصارف ممنوع، إلا ضمن حدود قدرة الدولة على استيعاب الديون السياديّة، أي ضمن حدود الديون التي سيتم الإبقاء عليها بعد إعادة هيكلة الدين العام. وشطب الرساميل المصرفيّة، وبشكل تام ونهائي، سيكون الخطوة الأولى لاستيعاب جزء من الخسائر، قبل الانتقال لتحميل الخسائر لأي شريحة أخرى، وفق مبدأ احترام “تراتبيّة الحقوق” في حالات التعثّر.
بندان، كانا كفيلان بإيقاظ “عفاريت” جمعيّة المصارف، التي أطلقت بياناً نارياً وشعبوياً اعتبرت فيه أن الحكومة قررت إلغاء الودائع بشخطة قلم، وكأن أموال المودعين لم تُبدد أساسًا بقرارات مجالس إدارة المصارف نفسها. أمّا الذي أثار حفيظة الجمعيّة، فهو تجاهل الحكومة لمقترحها التاريخي، القاضي بإنشاء صندوق يجمع أصول الدولة، بما يسمح باستثمار الأصول لغرض معالجة خسائرها. وفي خلاصة الأمر، وضعت المصارف المودعين كمتراس أطلقت النار من خلفه على الحكومة، بعد أن اعتبرت أن الخطة الماليّة المطروحة تودي بما تبقى من ودائع بشكل نهائي، لتشير في ختام البيان بأنّها “تقف صفّاً واحداً مع المودعين لرفض هذه الخطة التي لا نهوض فيها سوى في اسمها”.
المصارف تعلن الحرب عبر سعر الصرف
أعلنت المصارف الحرب الإعلاميّة على الخطّة، التي يمكن أن تنهي ملكيّة أصحاب المصارف لمصارفهم، بما يعني المساس بمصالح تتجاوز قيمتها عشرات مليارات الدولارات. وبما أنّ أوساط رئيس الجمعيّة سليم صفير تذكّر دائمًا بمقولته الشهيرة، “أقطع يدي ولا أوقّع على خطّة تشطب رساميلنا”، فالخيار الطبيعي للجمعيّة كان التصعيد على جميع الجبهات، بما فيها جبهة سعر صرف الدولار، وباستخدام جميع الأدوات المتاحة. مع الإشارة إلى أنّ جمعيّة المصارف تدرك جيّدًا حساسيّة ملف سعر الصرف بالنسبة لرئيس حكومة تصريف الأعمال في هذه المرحلة بالتحديد، وبأثر هذا الملف على الاستقرار المعيشي والأمني.
لكل هذه الأسباب، أشهرت المصارف أسلحتها، فلجأت منذ نهاية الأسبوع الماضي إلى تجفيف نبع الدولار الأساسي، الذي سمح بضبط سعر صرف السوق الموازية منذ بداية هذا العام، أي منصّة صيرفة المستخدمة لبيع الدولار من خلال الفروع المصرفيّة. فبعد أن توقّفت المنصّة عن بيع الدولار بلا سقوف منذ أشهر، واقتصر عمل المنصّة على بعض فئات المستوردين وأصحاب الرواتب الموطّنة، أقدمت الغالبيّة الساحقة من الفروع المصرفيّة منذ نهاية الأسبوع الماضي إلى حصر عمليّات المنصّة بشكل قاس، من دون أي مبرّر، لتقتصر عمليّات بيع الدولار عبر المنصّة على بعض العمليّات الاستثنائيّة في كل فرع. ولهذا السبب بالتحديد، انتقل جزء كبير من الطلب على الدولار، الذي تم تلبيته خلال الأشهر الماضية عبر المنصّة، إلى السوق الموازية، ما أدى إلى الارتفاع السريع في سعر صرف دولار السوق الموازية.
حملة علاقات عامّة
بالتأكيد، لا تقتصر أسباب ارتفاع سعر صرف الدولار على إجراءات المصارف الأخيرة، إذ ساهم تراجع احتياطات المصرف المركزي أيضًا في تقليص كوتا الدولارات التي يقوم بتأمينها للمصارف يوميًّا، والتي يتم بيعها عبر منصّة صيرفة، من دون أن يبرّر ذلك لجم المصارف لعمليّات المنصّة بهذا الشكل. وهكذا، ساهمت إجراءات المصارف عمليًّا في مفاقمة شح الدولارات، وهو ما أجج من وتيرة ارتفاع سعر الصرف في السوق الموازية. في النتيجة، بات من الواضح أن ما تريده المصارف من تحريك جبهة “سعر الصرف” ليس سوى الضغط على القوى السياسيّة التي تملك قرار حكومة تصريف الأعمال، لفرض تنازلات معيّنة في ملف خطّة التعافي المالي، وخصوصًا في ما يتعلّق بمسألة توزيع الخسائر المصرفيّة. مع العلم أن تأجيج سعر صرف الدولار، من شأنه أن يزيد من السخط الشعبي على السلطة، وهو ما يمكن أن يسهّل في المستقبل التصويب على الإجراءات والمعالجات الماليّة التي طرحتها حكومة تصريف الأعمال، ومنها خطة التعافي المالي.
بالتوازي مع أجواء التوتير المالي التي ساهمت بافتعالها المصارف، أطلقت جمعيّة المصارف حملة علاقات عامّة، استهدفت التواصل مع إعلاميين ونقابات وأحزاب فاعلة، بهدف الإضاءة على نقاط المواجهة الأساسيّة مع الخطّة التي طرحتها الحكومة. أما محتوى الحملة، فركّز على عناوين عريضة قابلة للتسويق شعبيًّا، من قبيل دعوة الدولة إلى تحمّل نصيبها من الخسائر، للتعويض على المودعين، بخلاف خطّة التعافي المالي المطروحة والتي تحيّد الأموال العامّة عن هذه المسألة. وهذه الحملة، سرعان ما بدأت تُؤتي ثمارها في تصاريح بعض النوّاب الإعلاميّة، والتي ركّزت جميعها على هذا النوع من العناوين بالتحديد، وباستخدام العبارات والشعارات نفسها.
في خلاصة الأمر، من الواضح أن البلاد ستكون خلال الأشهر المقبلة على موعد مع استعادة سيناريو العام 2020، أي سيناريو طرح الخطّة الماليّة التي تحمل أولويات صندوق النقد الدولي، في مقابل تكتّل اللوبي الإعلامي والنيابي الموالي للمصارف لإسقاط الخطّة. وفي حال الإطاحة بالخطّة من جديد، كما تسعى جمعيّة المصارف اليوم، من الأكيد أن البلاد ستمضي في طريقها نحو القعر، بما أن الحكومة لم تضع منذ البداية أي رهان جدّي باستثناء الرهان على برنامج صندوق النقد، الذي ينتظر بدوره تنفيذ شروط محددة ومنها الموافقة على الخطة المطروحة.