لماذا لم يعد هناك من “دولارات”؟ سؤالٌ تحوّل إلى لازمة على كل شفة ولسان. مع بداية كل أسبوع يحتار المودعون صغاراً كانوا أم كباراً ماذا يفعلون ليسحبوا من ودائعهم القليل من العملة الصعبة. يتنقّلون بين فروع مصارفهم، من شارع إلى آخر ومن منطقة إلى أخرى، يُسابقون الوقت للحصول على مئة دولار، أصبحت تخرج من الصناديق عشرينات وخمسات، وكأن البنوك فتحت “قجّتها” لتعطي آخر ما تملك.
التشبيه الساخر ما هو إلا المرآة للحقيقة المرة للتحول الدراماتيكي الذي شهده الإقتصاد اللبناني بشقه النقدي تحديداً.
ففي الفترة الماضية كثُر الحديث عن ان القطاع المصرفي اللبناني يُعتبر واحداً من أكبر القطاعات المصرفية العربية والدولية مقارنة بحجم الإقتصاد الوطني، حيث تبلغ الأصول المجمّعة للقطاع حوالى 234.6 مليار دولار او ما يعادل أربعة أضعاف الناتج المحلي الإجمالي، فيما تصل قيمة ودائع القطاعين العام والخاص في المصارف إلى حوالى 176.1 مليار دولار. فأين هي هذه الأموال؟ وهل تبخّرت كلها؟
تتوزّع ودائع القطاعين (176.1 مليار دولار) على الشكل التالي: 75 في المئة بالعملة الصعبة و25 في المئة المتبقية بالليرة اللبنانية. وعليه فإن قيمة الودائع الفعلية الموجودة في المصارف بالدولار تتراوح بين 120 و125 ملياراً.
70% من الودئاع للدولة
“خلال السنوات الماضية أقرضت المصارف القطاعين العام والخاص مبالغ كبيرة. وبشكل تقريبي فقد توزعت النسب على الشكل التالي: 30 في المئة للقطاع الخاص و30 في المئة إكتتاب بسندات “اليوروبوندز” و40 في المئة تم وضعها في مصرف لبنان”، يقول الخبير الإقتصادي جان طويلة.
وإذا عدنا للأرقام، فتكشف الميزانية المجمّعة للمصارف التجارية ان المصارف أعطت المصرف المركزي ما يقارب الـ 112 مليار دولار تشكّل حصة العملة الصعبة منها بحدود 70 ملياراً، استعمل القسم الأكبر منها لدفع ثمن مشتريات الدولة وحماية سعر الصرف.
باستثناء الـ 1.2 مليار دولار التي تتأتّى سنوياً من عقدَي الشركتين المشغّلتين لقطاع الخلوي “ألفا” و”تاتش”، فإن كل مقبوضات الدولة اللبنانية هي بالليرة فيما مشترياتها الخارجية من نفط وفيول وغيرها الكثير يُدفع ثمنها بالدولار. “قيمة هذه المدفوعات بلغت 15 مليار دولار دفعها المركزي من إحتياطي العملات الاجنبية الموجودة لديه في عملية سواب مع الدولة، أي ان الاخيرة تدفع بالليرة ما يسدّده المركزي بالدولار”، يوضح الخبير في الأسواق المالية دان قزي، ويضيف ان “المركزي تدخّل ايضاً لحماية سعر الصرف بما لا يقل عن 40 مليار دولار. إذ انه بحسب المنطق فان أي عملية شراء بالليرة لسلع مستوردة سواء كانت ملبوسات أو مواد استهلاكية أم سيارات أم غيره وكل عملية تحويل الليرة الى دولار من أجل الصرف والانفاق في الخارج يُدفع ثمنها من الدولارات الموجودة في المركزي فهذه العمليات ليست مجانية”.
بالمنطق ما زال يوجد في مصرف لبنان لغاية الآن حوالى 30 مليار دولار وهي تعتبر growth reserves فيما الـ net reserves الذي يظهر في وكالات التصنيف يُعتبر سلبياً.
مشكلة المودعين
المشكلة التي يعيشها المواطن اللبناني تتمثّل في فقدان “البنكنوت” أي العملة الورقية من المصارف. وهذا يعود برأي طويلة إلى سببين:
– استنفاد القطاع المصرفي السيولة الموجودة لدى المصارف المراسلة في الخارج Correspondent Banks، والتي انخفضت من 9 مليارات دولار في نهاية أيلول إلى مليار واحد حالياً.
– استنزاف العملة الورقية نتيجة ارتفاع وتيرة السحب اليومي للدولار من المصارف وخروج مبالغ نقدية كبيرة خلال الفترة الماضية.
النتيجة، لم يعد هناك من سيولة بالدولار واحتمال توقف المصارف عن اعطاء “بنكنوت” بالدولار أصبح قريباً جداً. وهو ما سيُفقد المودعين والمواطنين الذين يتقاضون رواتبهم بالدولار الأميركي حوالى 33 في المئة من قدرتهم الشرائية إذا بقي سعر الصرف في السوق الثانوية 2180 ليرة مقابل الدولار. ومما يزيد المشكلة ويعمّقها هو نسبة الدولرة المرتفعة في الإقتصاد والتي تتجاوز الـ 73 في المئة.
مصير الاستيراد
يرى الخبراء، أن هذه الإجراءات القاسية تهدف بجزء أساسي منها إلى المحافظة على كمية الدولار النقدي المتبقي لتأمين المستوردات الأساسية من الخارج، لاطول فترة ممكنة. إلا ان المشكلة هي ان هذه الإجراءات ستنفد من “سلة” المواطنين الدولارية، فيما لم يبرز أي اتجاه جدي لقوننة “الهير كات” المنطقي الذي من المفروض ان ينفذ على حسابات كبار المودعين الذين استفادوا من فوائد خيالية طيلة سنوات خلت تجاوزت الـ 20 في المئة.
هذا الواقع “المحبط” يترافق مع نمو سلبي في الودائع بعدما كانت نسبة الزيادة تصل في الأعوام الماضية الى 8 في المئة، وهو ما يحتّم إيجاد بدائل جدية وسريعة من خلال زيادة التصدير وتخفيض الفوائد للتشجيع على الإستثمار وتأمين الإستقرار لعودة السياح، تعوّض توقّف تدفقات الدولار عبر المصارف.