المصارف تنقسم مجددًا: صقور وحمائم.. وثعالب

خيّم القلق في بداية هذا الأسبوع على أوساط جمعيّة المصارف، بعدما دخلت فروعها نفق الإقفال المفتوح، الذي ستقتصر فيه الخدمات المصرفيّة على تعبئة الصرّافات الآليّة، وتلبية طلبات الشركات، وتحديد مواعيد قليلة للحالات الطارئة. باختصار شديد، انقلب سحر المصارف اللبنانيّة عليها، وباتت أسيرة اللعبة التي حاولت فرضها على الموعين.

محاولة تطبيع الأزمة

فطوال السنوات الثلاث الماضية، عملت المصارف على تطبيع استمرارها بالعمل بشكل عادي، رغم امتناعها عن الدفع بالنسبة لودائع ما قبل 17 تشرين الأوّل 2019، في محاولة لتثبيت معادلة “عفى الله عن ما مضى” بالنسبة لهذه الودائع، مقابل فتح صفحة جديدة بالنسبة للدولارات الطازجة. وخلال الأسابيع الماضية، كانت المصارف تضغط على مصرف لبنان لإطلاق رزمة تعاميم جديدة تنظّم إقراض وتداول الدولارات الطازجة داخل النظام المصرفي، في محاولة لتنشيط عملها على هذا الأساس.

وكما هو معلوم، كان من الطبيعي أن تعني هذه المعادلة أنّنا سنكون أمام مصارف زومبي، أي مصارف معطوبة بكتلة خسائر تمنعها من أن تشكّل نظاماً مالياً طبيعياً وصحّياً. لكن طالما أنّ هذا الخيار كان سيحمي الرساميل، أي أسهم أصحاب المصارف، فهذا الوضع كان سيبقى أفضل من أي خطة تصحيح شاملة، يمكن أن تفرض إعادة الهيكلة مع شطب الرساميل لتحمّل الخسائر، ومن ثم إعادة رسملة القطاع. وفي النتيجة، تكاملت مساعي جمعيّة المصارف هنا مع تعاميم مصرف لبنان، الذي واظب على تشريع ما تقوم به المصارف، من خلال تنظيم وضعيّة الدولارات الطازجة، وتمييزها عن الودائع القديمة، ووضع الآليّات المخصصة للسحب من الودائع القديمة بسقوف شهريّة محددة.

تمرّد المودعين يقلب الطاولة

كل هذا المسار، سقط بالضربة القاضية خلال الأسابيع الماضية، من خلال اقتحامات المودعين وتمرّدهم على الأمر الواقع، وهو ما أفضى إلى الإقفال الذي يشهده القطاع المصرفي. وفي النتيجة، عنى هذا الإقفال استحالة تطبيع الأمر الواقع كوضع مستدام، ومنع الشروع بتكريس ظاهرة المصارف الزومبي كحالة دائمة على المدى الطويل.

وهذا الوضع أثار خلال الأيّام القليلة الماضية قلق القيمين على المصارف اللبنانيّة، الذين لم يمانعوا سابقًا الاستمرار في وضعيّة الزومبي، لكنّهم يمانعون حتمًا اتجاه القطاع بأسره إلى الإقفال الشامل. فحالة الإقفال ستعني عجز المصارف عن تلبية سائر الخدمات، التي كانت تراهن على الاستمرار بتقديمها في ظل تمنّعها عن سداد الودائع القديمة، ما سيضع القطاع على سكّة التقاعد التام. وتقاعد القطاع على هذا النحو سيمهّد الطريق لاحقًاً ربما لنشوء “مصارف نظيفة”، قادرة على تقديم الخدمات الماليّة التي توقّفت المصارف عن تقديمها كليًّا، وهو ما يمثّل كابوسًا كبيرًا بالنسبة إلى جمعيّة المصارف.

لهذا السبب، عادت النقاشات إلى طاولة جمعيّة المصارف من جديد، بهدف حسم موقف القطاع من مسارات المعالجة المطروحة من قبل صندوق النقد والحكومة اللبنانيّة، خصوصًا أن الأحداث الراهنة تثبت أن المراوحة الحاليّة باتت مكلفة وخطرة جدًّا على المصارف. وكما كان متوقّعًا، عاد الانقسام على طاولة الجمعيّة بين المصارف، حسب الوضعيّة الماليّة لكل مصرف، وقدرته على تحمّل هذا الحل أو ذاك.

ثلاثة اتجاهات

ومن الناحية العمليّة، يمكن تصنيف المواقف الحاليّة التي تتبناها المصارف داخل الجمعيّة على الشكل التالي:

– جناح الصقور: بعض المصارف، وخصوصًا الصغرى منها، التي لا تملك قدرة إعادة الرسملة من استثماراتها الخارجيّة، أو من خلال إعادة تقييم محافظها العقاريّة، ترى في المقاربة العامّة لخطّة التعافي والتفاهم المبدئي مع صندوق النقد خطراً داهماً على وضعيّتها في السوق، بل وعلى إمكانيّة استمرارها بالعمل لاحقًا. ولهذا السبب بالتحديد، تتبنّى هذه المصارف وجهة النظر التي تصر على رفض الخطّة بكاملها، مع تسويق توقّعات شديدة التشاؤم بخصوص التفاهم المبدئي مع صندوق النقد. حتّى اللحظة، مازال رئيس الجمعيّة سليم صفير يقود هذا الجناح داخل الجمعيّة، متسلّحًا بمواقف الغالبيّة الساحقة من الأحزاب والكتل النيابيّة، التي أبدت امتعاضًا خلال الأسابيع الماضية من “تشدد صندوق النقد” في ما يخص تنفيذ الشروط التفاهم المبدئي المعقود معه.

– جناح الحمائم: ثمّة جناح آخر، تقوده المصارف الأكثر الملاءة في الوقت الراهن، وخصوصًا المصارف الكبرى التي تملك استثمارات خارجيّة وازنة ومحافظ عقاريّة كبيرة، كمصرفي عودة ولبنان والمهجر. يصر هذا الجناح على اللعب وفقًا لقواعد لعبة التفاهم المبدئي مع صندوق النقد، من خلال محاولة إقحام تعديلات محدودة من ضمن الخطّة المطروحة، بدل محاولة نسفها بالكامل وترك القطاع يهوي. يتسلّح هذا الجناح بنجاح تعاونه الأخير مع رئيس الحكومة، والذي أدّى إلى تعديل خطّة التعافي وتضمينها بعض أفكار جمعيّة المصارف، كفكرة صندوق استرداد الودائع. مع الإشارة إلى أنّ مصادر الجمعيّة تشير إلى أنّ هؤلاء المصرفيين تحديدًا هم من تعاونوا مع رئيس الحكومة للعمل على تعديل الخطّة على هذا النحو، كما عملوا على الضغط لتمرير قانون الكابيتال كونترول. في حين أن الجناح الآخر عمل منذ الانتخابات النيابيّة على الضغط لرفض الخطّة كليًّا، من دون أن يبدي الكثير من الاهتمام بتعديلها.

– الثعالب والمتلونين: من بين الأطراف الفاعلة داخل الجمعيّة، تشير المصادر إلى وجود جناح ثالث تناسبه لهجة رئيس الجمعيّة سليم صفير، لاستعمالها كسقف تفاوضي مرتفع، ما يدفعه إلى تشجيع صفير على اعتماد هذه اللهجة. إلا أنّ هذا الجناح يشير في الاجتماعات الداخليّة إلى ضرورة استثمار السقف المرتفع للوصول إلى تسوية ما خلال الأسابيع المقبلة، خصوصًا أنّ الذهاب بعيدًا في عرقلة التفاهم مع صندوق النقد سيحمّل المصرفيين اللبنانيين وزر ضغوط دوليّة تتجاوز النطاق المحلّي، وهذا تحديدًا ما تبلّغته جمعيّة المصارف من الزيارة الأخيرة لوفد الهيئات الماليّة والاقتصاديّة الفرنسيّة.

في خلاصة الأمر، من الواضح أن جمعيّة المصارف تمكّنت من الوصول إلى الحد الأدنى من التوافق بخصوص شكل عمليّات الفروع المصرفيّة خلال المرحلة المقبلة، حتى أجل غير مسمّى، وهو ما تمّت ترجمته ابتداءً من اليوم. لكن من الأكيد في الوقت نفسه أنّ جمعيّة المصارف مازالت عاجزة حتّى اللحظة عن الخروج بإجماع داخلي، بخصوص كيفيّة التعامل مع ملف الخطّة الماليّة الحكوميّة والمفاوضات مع صندوق النقد. وهذا ما يحول دون قيامها بأبسط المطلوب منها كمجموعة ضغط محليّة، أي تمثيل مصالح أعضائها والدفع باتجاه السياسات التي تناسبهم. ولهذا السبب بالتحديد، قد تكون استمراريّة الجمعيّة وأداؤها لدورها المؤثّر والمعهود على المحك خلال المرحلة المقبلة.

مصدرالمدن - علي نور الدين
المادة السابقةإجراءات حماية لمنصة توظيف لبنانيين في قطر…لكنها غير كافية!
المقالة القادمةفواتير الكهرباء: التسديد دفعة واحدة والتيار غير مضمون!