المصارف تُحكم الطوق على المودِعين

استطاعت تدابير جمعية المصارف النقدية، المترافقة مع الحماية الأمنية، تعليق إضراب موظفي المصارف، لكنها أبقت باب الثقة بينها وبين المتعاملين مقفلاً. الزحمة أمام فروع المصارف بعد اضراب نقابة الموظفين، بدت أخف من المرة الماضية، عندما اقفلت البنوك أبوابها لأكثر من أسبوعين متتاليين من دون أي تبرير أو تعليق، إلا ان حالة السخط لدى الزبائن والمودعين كانت هذه المرة أكبر.

المصارف خفّضت هذه المرة سقف السحب الأسبوعي بالعملة الأجنبية الى 1000 دولار أميركي، وبعضها لم يؤمّن أكثر من 400 دولار في حين ان السقف كان قبل إقفالها الأخير، محدداً بـ 2500 دولار أميركي. الكثير من المصارف ما زالت ترفض تحويل الليرة اللبنانية الى الدولار على السعر الرسمي لتسديد أقساط ومدفوعات مقوّمة بالدولار، أما العمولة على السحوبات النقدية فحددت بين 5 و10 بالألف، أي ان المصرف يتقاضى 10 دولارات على كل عملية سحب 1000 دولار. تحويل الاموال الى الخارج بالنسبة للأفراد ما زال عملية شبه مستحيلة في ظل استنسابية المصارف بتفسير تعميم “الجمعية” القائل بأن “التحويلات إلى الخارج تكون فقط لتغطية النفقات الشخصية الملحّة”.

“إنهم يستخفون بعقولنا. يقولون لنا إنه لا توجد أزمة سيولة، وان الودائع مؤمّنة، في حين أن احد الموظفين اعتبر ان تحويل 2000 دولار الى ابني الذي يتخصص في أوروبا كبدل مصروف وإيجار ليس حاجة ملحة. وحين سألت الموظف ما هو الملح بنظرك قال: بلكي عملية…”، تقول سيدة واقفة أمام فرع مصرف في فرن الشباك.

الضبابية مستمرة

ثقل هذا الواقع على أكتاف صغار المودعين وأصحاب الحسابات الجارية والرواتب “الموطنة”، قد لا يذكر أمام ما يتحمله كبار المودعين وأصحاب المؤسسات الصناعية والتجارية والخدماتية وحتى الزراعية. فقرارات جمعية المصارف بالنسبة لهم طرحت أسئلة اكثر بكثير مما قدمته من أجوبة. فلم يرد في التدابير الجديدة أي إشارة، عما إذا كانت المصارف ستؤمّن الودائع الكبيرة التي تستحق، وستسمح لأصحابها بسحبها من المصرف مع الفوائد التي تراكمت عليها، أو ستعمد الى الترغيب والترهيب لتجميدها لفترة إضافية. هذا ولم تقدم المصارف أي حل أو تفسير لكيفية تحويل ما يتقاضاه التجار بالليرة اللبنانية، من زبائنهم المحليين، الى دولار، لكي يستطيعوا معاودة الإستيراد.

وعلى عكس تعاميم مصرف لبنان، التي تُعتبر إلزامية للبنوك، فإن قرارات “الجمعية” تُعتبر استنسابية، ويعود لكل مصرف تطبيق ما يراه مناسباً تبعاً لوضعه المالي وظروفه الخاصة. هذا الواقع دفع بعض المصارف الى التمنّع عن معاودة إعطاء التسهيلات التجارية، ضمن الرصيد الذي وصلت إليه بتاريخ 17 تشرين الأول 2019، كما نصّ تعميم الجمعية.

نقيض تجربة التسعينات

“قبل نحو عام لم يكن أحد يهتم بودائعه أو حساباته التي إئتمن المصرف على الإحتفاظ بها وتشغيلها، إلا انه اخيراً ونتيجة الظروف السياسية وبعض الدعاية السلبية، أصيب المواطنون بالهلع، مما سبّب الكثير من الضغط على القطاع المصرفي، ودفعه لاتخاذ تدابير مقيدة”، يقول النائب السابق لحاكم مصرف لبنان، مكرديج بولدوكيان.

الأزمة التي يمر بها لبنان على الصعيدين السياسي والنقدي قد تكون الأقوى لكنها ليست المرة الأولى. ففي العام 1989 واجه لبنان ظرفاً مماثلاً، لكن لم يُذكر أي تهافت على المصارف لسحب الودائع ولم تُسجّل حالة ذعر واحدة، بل على العكس كان المودعون مرتاحين ولديهم ملء الثقة بمصارفهم ومدرائها. ولم يشعر المودعون انهم بخطر، وهذا يعود بحسب بولدوكيان الى سياسة “اليد المفتوحة” التي انتهجها حاكم مصرف لبنان إدمون نعيم في ذاك الوقت. فلم يجرِ أي تقييد لرؤوس الأموال أو أي منع للتحويل الى الخارج مهما عظم المبلغ، لأن نعيم كان على ثقة تامة بأن “ما يخرج اليوم نتيجة الحرب وتشنج الأوضاع، سيعود ويدخل في الغد بعد انتفاء الظرف”. وقد أثبتت هذه السياسة صحتها آنذاك، وحدّت من الهلع، وخلقت جواً من التضامن والتكافل المشترك بين المصارف من جهة، والمودعين من جهة أخرى.

أسباب القيود

التجربة التي أثبتت صحتها في أوائل التسعينات لم يجرِ استنساخها اليوم، رغم تشابه المراحل والظروف، بل جرى نسفها. حيث لجأت المصارف الى اتباع سياسات مقيدة لحركة رأس المال. وهذا يعود بحسب الخبراء الى سبب من ثلاثة:

الأول، استنزاف الودائع لتمويل الدولة، وارتفاع المخاوف من عجزها عن سداد الديون بعد وصول تصنيفها الإئتماني الى caa2. فشهية الدولة المفتوحة على التمويل بعد التسعينات، دفعت الى أكبر عملية شفط للدولار من أموال المودعين من المصارف التجارية عبر مصرف لبنان لتمويل نفقات الدولة، ودعم سعر صرف الليرة اللبنانية.الثاني، عدم رغبة المصارف في التضحية بجزء من أرباحها ولو على حساب طمأنة المودعين. فحاكم “المركزي” رياض سلامة عبّر بوضوح خلال مؤتمره الصحافي الأخير، ان باستطاعة المصارف الإقتراض من مصرف لبنان بفائدة 20 في المئة لتلبية طلبات المودعين، كما طلب منها استعادة أموال المصارف المراسلة والتي تقدر بحدود 9 مليارات دولار. كما ان المركزي عمد الى زيادة رساميل المصارف بنسبة 20 في المئة وطلب عدم توزيع الارباح لتوفير ما يقدر بحدود 4 مليارات دولار لتأمين مزيد من الأمان.

الثالث، خوف المصارف من دخول البلد في مرحلة أخطر على الصعيدين السياسي والامني.

سواء كانت الأزمة نتيجة سبب واحد أو الأسباب الثلاثة المجتمعة، فان الحقيقة واحدة: انعدام تام لثقة المودعين في الداخل والخارج بالقطاع المصرفي، مع غياب الظرف الملائم لاستعادتها في الأمد القريب.

مصدرخالد أبو شقرا - نداء الوطن
المادة السابقةالسحب ممنوع… والعتب مرفوع
المقالة القادمة“تعويم” الخزينة من جيوب المستفيدين من “البقرة الحلوب”