المصارف ولعبة الفوائد: إطفاء الخسائر على حساب المجتمع

المصارف باتت تدرك أن المودع أصبح أسير القيود التي فرضتها على السحوبات النقديّة والتحويلات إلى الخارج، ما يعني عمليًّا حبس وديعته داخل النظام المصرفي بمعزل عن حجم الفوائد الممنوحة. كما باتت المصارف تدرك أن عمق الأزمة المصرفيّة لم يعد يسمح باستقطاب أي تحويلات بالدولار الطازج من الخارج، مهما ارتفع حجم الفوائد الممنوحة على الودائع المصرفيّة. باختصار، صار بإمكان المصارف أن تفرض الفوائد التي تريدها على الودائع المصرفيّة، كأمر واقع أمام المودعين، بمعزل عن حسابات العرض والطلب على السيولة المصرفيّة التي يفترض أن تحدد بنية الفوائد في السوق.

لهذا السبب بالتحديد، قررت المصارف وبمجرّد حصول الانهيار المالي الاقتصاص بشكل سريع ومفاجئ من حجم الفوائد التي تدفعها للمودعين، وبشكل مجحف وقاسٍ. في كانون الأوّل 2020، انخفض متوسّط الفوائد المدفوعة على الودائع بالدولار الأميركي إلى 0.94%، أي ما يوازي 14% فقط من الفوائد التي كانت تدفعها المصارف قبل الانهيار لتطميع المودعين ودفعهم إلى زيادة الودائعهم في المصارف. أما متوسّط الفوائد المدفوعة على الودائع بالليرة اللبنانيّة، فانخفضت خلال تلك الفترة أيضًا إلى نحو 2.64% فقط، أي ما يوازي أقل من 28% من الفوائد التي كانت تدفعها المصارف على هذه الودائع قبل الانهيار المالي. ومنذ ذلك الوقت، بدأ المودعون يدفعون ثمن الأزمة من ناحيتين: عبر حبس أموالهم في المصارف أولًا، ومن خلال الاقتصاص من قيمة الفوائد المحصّلة من هذه الودائع ثانيًا.

آخر الأرقام التي تعكس بنية الفوائد في نهاية العام 2021، والتي نشرها مصرف لبنان منذ أيّام، تظهر أن متوسّط الفوائد الممنوحة على الودائع المصرفيّة بلغت معدلات هزليّة غير مسبوقة: 0.19% فقط على الودائع المقوّمة بالدولار الأميركي، ونحو 1.09% فقط على الودائع المقوّمة بالليرة اللبنانيّة. بمعنى آخر، بات معدّل الفوائد الممنوحة على الودائع المصرفيّة بمختلف أنواعها وشرائحها وتواريخ استحقاقاتها لا يُذكر.

لكنّ لعبة الفوائد المصرفيّة لا تنتهي عند الإجحاف اللاحق بحق المودعين. ففي مقابل تقليص حجم الفوائد التي تدفعها المصارف للمودعين، استمرّت المصارف بجني مكاسب معتبرة من توظيف هذه الأموال في القروض الممنوحة للقطاع الخاص، أو في سندات الدين السيادي وشهادات الإيداع لدى مصرف لبنان. فمقابل الفوائد الشبه المعدومة التي دفعتها المصارف للمودعين، استمرّت المصارف بتقاضي فوائد تجاوز متوسّطها 7.14% من توظيف سيولتها بالليرة اللبنانيّة في التسليفات، فيما تجاوز متوسّط الفوائد التي تقاضتها المصارف من توظيف سيولتها بالدولار الأميركي حدود 6.01%.

ولهذا السبب بالتحديد، بات الفارق بين الفوائد التي تدفعها المصارف للمودعين بالليرة اللبنانيّة، والفوائد التي تجنيها من توظيف هذه السيولة، يتجاوز 5.91% في نهاية العام الماضي، فيما تجاوز هذه الفارق حدود 6.16% بالنسبة إلى الودائع والتوظيفات بالدولار الأميركي. مع الإشارة إلى أن هذه الفوارق لم تكن تتجاوز قبل تشرين الأوّل 2019 حدود 1.79% بالنسبة للودائع والتوظيفات بالليرة اللبنانيّة، و3.44% بالنسبة للودائع والتوظيفات بالدولار الأميركي.

وبهذه الطريقة، وبعد حصول الانهيار المالي، ارتفعت أرباح المصارف من الفارق بين الفوائد المدفوعة للمودعين والمحصّلة من التوظيفات بنحو 3.3 مرّات بالنسبة للتوظيفات والودائع بالليرة اللبنانيّة، وبنحو 1.79 بالنسبة للتوظيفات والودائع بالدولار الأميركي، رغم أن المصارف باتت اليوم في حالة تعثّر!

من يجني ثمار هذه الأرباح إذًا؟ ومن يدفع كلفتها؟ المستفيد من هذه التطوّرات، ببساطة، هم أصحاب المصارف، الذين بات بإمكانهم استعمال هذه الأرباح لضمّها إلى مؤوناتهم في الميزانيّات، من أجل التعامل مع خسائر الانهيار المالي الحاصل. مع الإشارة إلى أن الميزانيات المصرفية تُظهر ارتفاعاً خيالياً في أرباح عمليّات المصارف من جهة الفارق بين الفوائد المدفوعة والمحصّلة، في حين أن المصارف تستعمل هذه الأرباح لتكوين المؤونات وإطفاء الخسائر، ما يؤدّي إلى ظهور أرباح متواضعة أو حتّى خسائر بسيطة في النتيجة النهائيّة للميزانيّات. باختصار، هذه اللعبة تُستعمل اليوم للتعامل مع خسائر المصارف على حساب المجتمع.

أما من يدفع الكلفة، فهم أصحاب الودائع الذين يعانون من انخفاض نسبة الفوائد التي يحصّلونها، وأصحاب القروض المصرفيّة الذي يستمرّون بدفع كلفة الفوائد العالية للمصارف، مقابل السيولة التي اقترضوها سابقًا، بالرغم من انخفاض الفوائد التي تدفعها المصارف للمودعين، المصدر الأوّل لهذه السيولة. كما يدفع الكلفة أيضًا عموم المقيمين، من خلال استمرار الدولة ومصرف لبنان بدفع الفوائد المرتفعة، مقابل توظيفات المصارف في الدين العام وشهادات إيداع مصرف لبنان.

 

مصدرالمدن - علي نور الدين
المادة السابقةالهرمل في الظلام وتقنين إضافي بجبيل: الكهرباء إلى الأسوأ
المقالة القادمةالصين تتفوق على الغرب في التمويل الأفريقي