تركت الحرب آثارها على أرقام المنافذ البريّة والبحريّة، وخصوصًا مرفأ ومطار بيروت. فأرقام المطار المُتاحة حتّى نهاية الشهر الماضي، أظهرت استمرار التراجع في أرقام الوافدين، مقابل ارتفاع معدّلات الهجرة باتجاه واحد، مقارنة بالفترة المماثلة من العام الماضي. وفي مقابل انخفاض حركة الركّاب عبر المطار، كان من اللافت ارتفاع حركة الشحن التجاري عبره، وهو ما يعبّر عن اتجاه بعض خطوط التجارة إلى النقل الجوي، في ظل الاضطرابات العسكريّة التي تجري في منطقة البحر الأحمر. وبطبيعة الحال، من المتوقّع أن يترك هذا التطوّر أثره على كلفة الشحن، التي ستنعكس بدورها على معدّلات التضخّم في السوق المحليّة.
ارتفاع حركة الشحن عبر المطار
أبرز التحوّلات التي عكستها أرقام المطار هذه السنة، مقارنة بالفترة المماثلة من العام الماضي، تمثّلت في ارتفاع معدّلات الشحن التجاري بنسبة 15.2%، بينما ارتفعت معدلات الاستيراد -بالتحديد عبر المطار- بنسبة 35.8%.
لفهم هذا التحوّل، يمكن ببساطة النظر إلى أرقام مرفأ بيروت، التي تشير إلى انخفاض عدد الحاويات التي عبرت المرفأ إلى 35.67 ألف حاوية خلال شهر شباط الماضي، مقارنة بـ 40.86 ألف حاوية خلال الفترة المماثلة تمامًا من العام الماضي. بهذا المعنى، انخفض عدد الحاويات التي عبرت مرفأ بيروت بنسبة 12.7% بين الفترتين، في تطوّر مرتبط باضطرابات البحر الأحمر الجارية منذ الربع الأخير من العام الماضي.
لذلك، يصبح من الواضح أن هناك بعض خطوط التجارة التي انتقلت باتجاه الشحن الجوي منذ أواخر العام 2023، إما لتفادي الاضطرابات الحاصلة في منطقة البحر الأحمر، أو لتجنّب ارتفاع تكاليف التأمين البحري جرّاء هذه الاضطرابات. وفي الحالتين، ستكون النتيجة تحميل أسعار السلع المستوردة ارتفاع كلفة الشحن. إذ من المعلوم أنّ خطوط النقل الجويّة تكبّد التجّار تكاليف أعلى، مقارنة بكلفة النقل البحري الطبيعيّة.
وفي جميع الحالات، من المهم الإشارة إلى أنّ أزمة النقل البحري كانت قد تركت آثارها على أرقام الميزان التجاري خلال العام الماضي. فبعدما شهد ذلك العام ارتفاعًا في معدلات الاستيراد حتّى الشهر التاسع من السنة، عادت الأرقام الإجماليّة للعام 2023 لتسجّل انخفاضًا في حجم الواردات بنسبة 4.85%، مقارنة بالعام السابق. وفي النتيجة، انخفض حجم العجز التجاري للعام إلى 13.99 مليار دولار فقط، مقارنة بأكثر من 15.56 مليار دولار خلال العام السابق. وبذلك يكون العجز الإجمالي قد انخفض بنسبة 10.1% بين العامين، نتيجة انخفاض أرقام الاستيراد خلال تلك السنة.
وعلى مستوى أسعار السوق، تركت تلك التحوّلات أثرًا واضحًا خلال العام الحالي، بعدما سجّلت معدلات التضخّم ارتفاعًا ناهز حدود 70.36% حتّى شهر آذار الماضي. مع الإشارة إلى أنّ معدلات التضخّم الحاليّة، لم تعد مرتبطة بتقلّبات سعر صرف الدولار في السوق الموازية، كما كان الحال خلال الأعوام السابقة. بل باتت ترتبط بتقاطع عدّة عوامل، ومنها ارتفاع كلفة الاستيراد، بالإضافة إلى أثر تصحيح سعر الصرف المعتمد للجباية الضريبيّة والجمركيّة.
وافدون أقل وموجة هجرة كبيرة
على مستوى حركة الأفراد، تركت الحرب أثرها على أرقام المطار الإجماليّة، التي سجّلت عبور نحو 1.78 مليون شخص خطوط النقل الجوي، خلال الأشهر الأربعة الأولى من السنة. وبهذا الشكل، تكون حركة الأفراد الإجماليّة قد سجّلت انخفاضًا بنسبة 6.3%، مقارنة بالفترة المماثلة من العام الماضي.
لكن بالرغم من هذا التراجع، من المهم الإشارة إلى أنّ نسب الانخفاض الإجماليّة باتت اليوم أقل وطأة من سابقاتها في بداية الحرب، حين انخفضت مثلًا حركة مطار بيروت بنسبة 33.44% خلال الشهر الأوّل من المواجهات في جنوب لبنان. وهذا ما يشير إلى تأقلم نسبي مع المواجهات الجارية حاليًا، مع استمرار تأثيرها الملحوظ على حركة الأفراد.
لكن من المهم لفت النظر إلى أنّ أرقام المطار، لغاية شهر نيسان، أظهرت عبور 910,948 مغادرًا، مقارنة بـ870,861 وافدًا فقط. وهذا ما يدل على أنّ حركة السفر باتجاه واحد –إلى الخارج- ما زالت مستمرّة، لتسجّل أكثر من 40 ألف مهاجر خلال الأشهر الأربعة الأولى من العام.
وتجدر الإشارة إلى أنّ عدد المهاجرين تجاوز العام الماضي حدود 147 ألف شخص، منهم 100 ألف شخص غادروا خلال أوّل شهر من الحرب الدائرة. وبهذا الشكل، يمكن القول أن عدد المغادرين باتجاه واحد تجاوز منذ بداية العام الماضي حدود 187 ألف شخص، في دلالة واضحة على تسارع معدّلات الهجرة من لبنان.
في الوقت نفسه، كان من اللافت انخفاض عدد الرحلات الجويّة التي جرت من المطار خلال العام الراهن، والتي انخفض عددها إلى 7,505 رحلة، لغاية شهر نيسان الماضي. وبذلك تكون حركة الطائرات قد سجّلت انخفاضًا بنسبة 10.3%، مقارنة بالفترة المماثلة من العام السابق.
وهذا التحوّل، يرتبط بعاملين: انخفاض حركة المطار الإجماليّة هذه العام، مقارنة بالعام السابق، وحذر الشركات الأجنبيّة من التوتّرات العسكريّة الحاصلة في المنطقة. مع العلم أن بعض الشركات الأجنبيّة كانت قد علّقت رحلاتها باتجاه المطار في بدايات الحرب، بينما قرّر البعض الآخر تقليص عدد الرحلات المتجهة إلى بيروت.
على هذا النحو، باتت المؤشّرات المتاحة اليوم معاكسة لتلك التي شهدها لبنان خلال الأشهر التسعة الأولى من عام 2023، والتي تميّزت بارتفاع حركة الركّاب بالاتجاهين، بفعل الموسم السياحي الجيّد الذي شهده لبنان تلك السنة. ومن هذه الزاوية بالتحديد، يمكن فهم تقديرات البنك الدولي الأخيرة المتشائمة، التي توقّعت أن يكون الاقتصاد اللبناني قد انكمش بنسبة 0.2% خلال العام الماضي، بفعل تداعيات الحرب القائمة، بعدما كان من المتوقّع –قبل اندلاع الحرب- أن ينمو الاقتصاد بنسبة ضئيلة تقارب 0.2%.