تحت غطاء متطلبات الإعمار التي فرضها العدوان الإسرائيلي، قرر مجلس الوزراء مؤخراً، وقبل أن تنتهي مدة التمديد الإستثنائي الممنوحة لشركات الترابة لمدة سنة، السماح لها وبشكل استثنائي أيضاً، باستخراج المواد الأولية اللازمة للصناعة لمدة سنتين، تلبية لاحتياجات السوق، على ان تتقيد الشركات بالقرارات والتعاميم الصادرة من وزارتي البيئة والصناعة، اللتين ستصدران أذونات العمل كل ستة أشهر، تحدد خلالها كميات الحفر والمواقع التي تم فيها الحفر، وتطور عمليات تنفيذ مشاريع التأهيل.
إذا، بعد خمس سنوات من تراجع قطاع العقارات في لبنان، أعطى مجلس الوزراء الإشارة لتشغيل محركات مصانع إنتاج الترابة بطاقتها القصوى، مطلقاً يدها في الكسارات والمقالع التي تستثمرها لتأمين موادها الأولية. فضمنت مصانعها فرصتها الذهبية في الإستمرار باستنزاف هذه الموارد لمدة سنتين على الأقل، مع إلزامها بالسعر الرسمي المحدد من قبل وزارة الصناعة، الذي نص قرار مجلس الوزراء على وجوب مراعاته “الواقع المفروض ما بعد العدوان”. وهذا ما يبقي باب الإنتاج كما الأسعار خاضعاً للعرض والطلب، ليطرح السؤال عن الكلفة البيئية التي سيتكبدها لبنان جراء استخراج هذه الكميات من جباله، والأسعار التي ستباع بها للسوق.
شركات إنتاج الترابة
ثلاث شركات لإنتاج الترابة في لبنان هي: هولسيم، الترابة الوطنية أو السبع، وسبلين تؤمن كفاية لبنان من إنتاج الترابة ويصدر جزء منها الى الخارج أيضاً. ومع أن تعدد الشركات يشكل سبباً كافياً لعدم احتكار أي منها للسوق، يمكن الحديث هنا عن “كارتيل” يحظى بغطاء من الحماية، يوفره خضوع استيراد الترابة لإجازات مسبقة، حتى لو كان سعر الطن المستورد من الخارج أقل بنسبة خمسين في المئة من ذاك الذي ينتج محلياً. بينما لم تلق الأصوات التي طالبت وتطالب بفتح باب منح إجازات استيراد المادة من الخارج، أقله في مرحلة الإعمار، صداها في قرار مجلس الوزراء. فاكتفت الحكومة بالتأكيد على التقيّد بالمعايير البيئية، متعامية عن الخروقات الكبيرة لهذه المعايير طيلة السنوات الماضية.
يرى مصدر مطلع على ملفات وزارة الصناعة “أن الدولة مجبرة على أن تكون موضوعية ومتوازنة بقراراتها”، معتبراً أن “الإضرار بثلاثة مصانع تؤمن وظائف لمئات الأشخاص ليس مستحباً، ولكن هذا لا يعفيها من مسؤولياتها في إلزام الشركات بالشروط البيئية والقانونية والتنظيمية والاقتصادية وبأسعار منطقية”.
فماذا لو كانت الدولة الحامية هي نفسها المقصرة في تطبيق هذه الشروط؟
تلعب وزارة الصناعة دوراً منظماً لقطاع إنتاج الترابة وتأمين احتياجاته في السوق من خلال تحديد سقف أعلى لسعر طن الترابة، وربط استيراد المادة بإجازات مسبقة. غير أن الدولة، ممثلة بوزارة الصناعة، لم تلجأ لاستخدام ورقة فتح الاستيراد من الخارج لتأمين انتظام السوق، إلا في مرات قليلة، واكتفت في معظم الأحيان فقط بالتلويح باللجوء الى هذا الحق، وفي معظم الأحيان تحت ضغط الرأي العام والجمعيات البيئية المعارضة لاستنزاف الثروات البيئية.
حصل ذلك مؤخراً في العام 2021، حينها أيضاً أصدر مجلس الوزراء قراراً قضى بمنح أذونات استخراج الترابة لمعاملها سنة بسنة، محدداً الكميات المسموح باستخراجها بين مليون وثلاثة ملايين طناً. فكانت تلك الكميات كافية كي تضمن مصانع الترابة استمرار تشغيل أفرانها بشكل متواصل خلال مرحلة الركود العقاري، فباع بعضها إنتاجه للخارج بما يوازي نصف قيمة سعره في السوق المحلي، وبقيت أفرانها “ماشية” وأيضاً من دون إعارة أي أهمية للشروط البيئية.
كان لافتاً في هذه الفترة أيضاً تدخل الدولة مباشرة في تحديد سعر لطن الترابة يخالف الأنظمة الليبرالية. وبعد أن كان دورها يقتصر على تحديد سقف أعلى يمنع تخطيه، عمدت إثر الأزمة المالية التي ضربت لبنان، إلى التدخل مباشرة في تسعير طن الترابة بـ65 دولاراً، علماً أن النقاشات التي أدارها حينها مدير عام وزارة الصناعة السابق داني جدعون مع المصانع الثلاثة، قد أفضت إلى توافق على سعر 58 دولاراً يتضمن اقتطاع دولارين لإنشاء المناطق الصناعية ودولارين لإعادة تأهيل المواقع، إلا أن الحكومة أخذت بالسعر الأعلى من دون تحديد معايير واضحة لذلك.
رفع سعر الترابة
ومع أن الشركات ضمنت أرباحها من خلال السعر “الرسمي” المحدد لها، يتحدث مصدر مطلع للـ “المدن” عن لجوء وزير الصناعة لاحقاً الى رفع السعر مجدداً ليصل الى 78 دولاراً، يضاف إليه أربعة دولارات فرضتها الحكومة لاحقاً، وضريبة القيمة المضافة، وأجرة النقل وأرباح التجار. وهذا ما رفع كلفة طن الترابة الواصل الى المستهلك الى نحو 100 الى 110 دولارات تقريباً. هذا في وقت تحدثت معلومات عن قيام الشركات نفسها ببيع الطن الى الخارج بكلفة 45 دولاراً، وهو السعر المتداول في أقرب البلدان كمصر، الأردن وسوريا والعراق وتركيا.
تبين تركيبة سعر طن الترابة، المكاسب المحققة لشركات الترابة في الأسواق المحلية، ما يجعل مصلحتها بالاحتفاظ بكل احتياطي لديها كي تطرحه في السوق خلال مرحلة الإعمار. وهذا ما توضّح خلال لقاء تمهيدي عقد مع ممثلي شركات الترابة في وزارة الصناعة، حيث أكد هؤلاء وفقا للمعلومات جهوزيتهم لتأمين طلبات السوق.
وبحسب توضيحات مدير عام وزارة الصناعة شانتال عقل للـ”المدن” فإن الشركات وعدت بتزويد الوزارة بتفاصيل كميات “الستوك” المتوفرة لديها. ولكنها اعتبرت أن التحدي الأكبر خلال المرحلة المقبلة “هو بقدرة تأمين الكميات من ضمن الإطار الزمني الذي ستستغرقه عملية إعادة الإعمار والتي قد تمتد لسنوات”. واعتبرت “أننا قد نتمكن من تقدير الإحتياجات للكميات ولكننا غير قادرين على تحديد الإطار الزمني لتوفيرها، حتى الآن”.
وإذا كان قرار مجلس الوزراء لم يحدد كميات المواد الأولية المسموح باستخراجها من المقالع والكسارات، تشرح عقل في المقابل “أن مسألة تحديد هذه الكميات ترتبط بشكل أساسي بالمجلس الوطني للمقالع والكسارات”. هذا في وقت يوضح وزير البيئة ناصر ياسين “أننا اليوم بمرحلة مناقشة كل مرحلة الاعمار وسنرى الحاجات المطلوبة”. مؤكدا أن الوزارة “حريصة على تطبيق كل القرارات المتعلقة بالشروط البيئية، بدءا من مرحلة الحفر الى التأهيل وخفض الانبعاثات بصرف النظر عن الوضع الحالي”.
الكلفة البيئية
ضبط الكلفة البيئية لإعادة الإعمار، على أهميته، لا يشكل العامل الوحيد لارتفاع صرخات الهيئات والجمعيات، وحتى النواب، الداعية لفتح باب استيراد الترابة من الخارج وتحريره من الرسوم العالية وخصوصاً في مرحلة الإعمار، وإنما أيضاً الكلفة المرتفعة للإنتاج المحلي. ومع أن مجلس الوزراء أبقى الباب مفتوحاً للمساومة على سعر الطن من خلال تضمينه قراره الأخير موجب “مراعاته لواقع ما بعد العدوان” فإن الغموض يحيط بالسعر الرسمي الذي إشترطته في القرار. فهل قيمته الصافية 65 دولاراً وفقاً لقرار حكومي، أم 78 دولاراً وفقاً لقرار وزاري. علماً أن السعرين ينطويان وفقاً لمصدر مطلع، على هدر كبير في المال العام، خصوصاً أن جزءاً من إنتاج الترابة سيشكل حاجة لوزارة الأشغال والبلديات ومجلس الإنماء والإعمار في إعادة تأهيل البنية التحتية، هذا فضلاً عما تثيره التسعيرة من شبهات بالنسبة للجهات المانحة الراغبة في المساهمة بمرحلة إعادة الإعمار.
بينما يرى المصدر حاجة الى إجراءات حمائية شفافة تتضمن الى جانب تحديد أسعار عادلة مبنية على دراسة علمية للكلفة ووضع سقف محدد للأرباح المسموح بها على طن الترابة، الإلتزام بالمرسوم 8803 ومعاييره البيئية المحددة في الحد من التلوث الناتج عن هذا القطاع. مع دعوة أيضاً لتفعيل دور الهيئات الرقابية في مواجهة الإرتفاع غير العادل لفاتورة إعادة الإعمار، وإشراك الجهات المانحة في هذا التوجه من خلال حثها على إستبدال المساعدات المالية المباشرة بتوفير كميات الترابة كإعانة عينية.