ثمّة ما يستدعي الإلتفات إليه في تطوّرات الأيّام القليلة الماضية، بين الأنباء عن تعليق أو تأجيل إطلاق منصّة “بلومبيرغ”، التي كان يفترض أن تحل مكان منصّة صيرفة، وعودة وزير الاقتصاد أمين سلام للتباهي بالدولرة، بوصفها الوصفة البديلة التي تؤمّن الاستقرار النقدي في السوق. بين الخبرين، هناك ما يوحي بأنّ الجميع سلّم بتعليق الملفّات والإصلاحات الاقتصاديّة الداهمة، مقابل الاستعانة بوصفات وطلاسم بهلوانيّة في إدارة الشأنين النقدي والمالي، من قبيل ما تحدّث عنه سلام. فكلما عَلا دوي المدافع جنوبًا، يصبح من الطبيعي أن يخفت الكلام الرصين عن التحديات المرتبطة بتصحيح وضعيّة البلاد الاقتصاديّة، والتي تمّ تسخيفها أصلًا على مرّ السنوات الأربعة الماضية.
شعار “لا صوت يعلو فوق صوت المعركة”، ينجح اليوم بتسخيف الحديث عن التحديات الماليّة والاقتصاديّة، تماماً كما يسخّف في العادة –ومن دون وجود حرب أصلًا- أي كلام عن المسائل المرتبطة ببناء الدولة الحديثة والمؤسسات. ومع ذلك، يبدو الآن، وأكثر من أي وقت مضى، أنّ تعليق التعامل مع التحديات الاقتصاديّة، والاستمرار بتجاهلها حتّى في ظل تصاعد احتمالات التصعيد العسكري، هو خاصرة لبنان الرخوة خلال أي حرب محتملة. هذا إذا افترضنا طبعًا أننا معنيون بمقوّمات صمود المجتمع وتماسكه، وأنّ حساباتنا لا تقتصر على معادلات الردع العسكري فقط.
سلام كحالة نموذجيّة: البهلوانيّات بدل علم الاقتصاد
لا يحتاج اللبنانيون إلى تحليلات جهابذة الاقتصاد، ليفهموا مدى العقم والعبثيّة التي تحكم رؤية وزير اقتصادهم. الوزير الذي كان يفترض أن يشرف –إلى جانب غيره في الحكومة- على تطبيق خطّة التعافي المالي الشاملة، اعتبر يوم أمس في تغريدة له أنّه أدّى قسطه للعلى بما يخص المحافظة على سعر صرف الليرة…عبر اتخاذ قرار دولرة الأسعار! ثم طلب الوزير شعبه تخايل النتائج على سعر الصرف، لو كان المواطنون ملزمين اليوم بالدفع بالليرة اللبنانيّة حصرًا. “ألم يكن سعر الصرف أضعاف ما هو عليه اليوم؟”، يسأل أمين سلام.
قبل الخوض في نتائج الدولرة اليوم، من المهم الإشارة إلى أنّ “المدن” فنّدت مزاعم تغريدة سلام، من خلال الإشارة إلى الارتفاع الصاروخي الذي حصل في سعر صرف الدولار الأميركي مقابل الليرة، بمجرّد اتخاذ قرار دولرة الأسعار في بداية شهر آذار الماضي. أمّا ضبط واستقرار سعر الصرف على مرّ الأشهر اللاحقة، وعند مستويات مرتفعة مقارنة بالعام الماضي، فحصل في ضوء قرارات جرت على مستوى السياسة النقديّة لمصرف لبنان، من دون أن يكون هناك أي فضل لقرار الدولرة الذي اتخذه سلام. وفي جميع الحالات، من المعلوم أن المواطنين اللبنانيين لم يكونوا ملزمين بالدفع بالليرة حصرًا، حتّى قبل اتخاذ قرار الدولرة المشؤوم، في حين أنّ مفاعيل القرار اقتصرت على التسعير بالدولار.
على أي حال، وبمعزل عن تحليلاتنا، كانت تقارير البنك الدولي قد أشارت في أوقات سابقة لمفاعيل الدولرة في السوق، على مستوى إطلاق العنان لموجات التضخّم غير المسبوقة. فمستويات التضخّم هذه السنة ارتفعت إلى حدود قياسيّة لم يشهدها لبنان منذ بدء الأزمة الاقتصادي، بالرغم من الاستقرار النسبي في سعر الصرف، الذي شهدته البلاد على مرّ الأشهر الماضية. وبيانات صندوق النقد الدولي كانت قد أشارت بدورها إلى مخاطر الدولرة النقديّة، على مستوى تسهيل عمليّات تبييض الأموال، خصوصًا أنّ الاتجاه نحو الاقتصاد النقدي يتوازى حاليًا مع الاتجاه لاستعمال العملة الصعبة في التداولات التجاريّة. وهذا الواقع، هو بالضبط ما يشغل بال مجموعة العمل المالي، التي مازالت تلوّح بإدراج البلاد على القائمة الرماديّة.
إلا أنّ أهم ما في الموضوع هو أنّ الدولرة، التي يتفاخر بها وزير الاقتصاد كبديل عن السياسة النقديّة المنتظمة، هي أخطر ما يواجه الاقتصاد اللبناني اليوم، في الوقت الذي تلوح فيه احتمالات التصعيد الشامل. بمعنى أوضح: يمثّل الوضع النقديّة، وتحديدًا اعتماد السوق على التداولات النقديّة بالدولار، خاصرة لبنان الرخوة، في حال حصول أي حرب واسعة النطاق في وجه إسرائيل.
فهل فكّر وزير الاقتصاد على سبيل المثال بمعنى أن تعتمد البلاد حاليًا على الدولار في التداولات التجاريّة النقديّة، في الوقت الذي يُحتمل أن يكون فيه لبنان جزءًا من حرب إقليميّة تواجه النفوذ الأميركي في المنطقة؟ هل فكّر باحتمالات التضييق على علاقة لبنان بالمصارف المراسلة؟ أو حتّى بإمكانيّة استعمال هذه العلاقة كوسيلة ضغط على لبنان؟ وهل ثمّة عبقريّة اقتصاديّة لا نفهمها في توازي الاتجاه نحو الدولرة، مع الاتجاه نحو التكامل مع محور عسكري مناهض –ميدانيًا- للولايات المتحدة الأميركيّة وقواعدها في الشرق الأوسط؟
قد يبدو كل هذا النقاش غريبًا عن اللبنانيين، بعدما حكمت الشعبويّة النقاشات الاقتصاديّة طوال السنوات الأربع الماضية. إلا أنّ ألف باء السياسات النقديّة تشير إلى أنّ الاتجاه نحو الدولرة، بمعناها الأوسع، أي بمعنى الارتباط بعملة أجنبيّة بشكل متزايد، هو قرار سياسي حسّاس بقدر ما هو قرار اقتصادي خطير. فالاستناد إلى عملة أجنبيّة يعني صراحة الإلتحاق بتكتّل مالي نقدي معيّن، والارتباط به وبالعلاقة مع النظام السياسي الذي يديره. وقد لا يكون هذا القرار دائمًا قرارًا عبثيًا، إذا استند إلى حاجات جيواقتصاديّة واضحة. لكنّه يصبح قرارًا عبثيًا حين تشجّعه حكومة تتعارض توجّهاتها السياسيّة مع أولويّاتها النقديّة والماليّة، كما في حالة الحكومة الذي جاء من ضمنها سلام وزيرًا للاقتصاد.
تعليق منصّة “بلومبيرغ”: تأجيل مسار المعالجات النقديّة
البديل عن الدولرة القائمة، والتي تعبّر عن هشاشة نقديّة لا معالجات فعليّة، كل يفترض أن يمر بمحورين. الأوّل، هو الخطّة الاقتصاديّة التي كان يفترض أن تعمل عليها وزارة أمين سلام، لتعزيز الاعتماد على الإنتاج المحلّي، وتقليص الحاجة للعملة الصعبة للاستيراد والتسعير. والثاني، هو السياسة النقديّة التي كان يفترض أن ينتهجها مصرف لبنان، لتوحيد أسعار الصرف وضمان استقرار سوق القطع، وهو ما كان يجب أن يتكامل مع المعالجات الماليّة والمصرفيّة الأخرى. وإذا كان تلكّؤ سلام في مهمّته مفهومًا، بحكم تواضع إلمامه بمهام وزارته، كما تشير تغريداته، فللمسائل المرتبطة بمصرف لبنان قصّة أخرى.
من الناحية العمليّة، مرّ ثلاثة أشهر على تعليق العمل بمنصّة صيرفة، بعدما قرّر المجلس المركزي لمصرف لبنان إنشاء ما يشبه القطيعة مع السياسات النقديّة التي اعتمدها حاكم المصرف السابق رياض سلامة. ومنذ ذلك الوقت، بدأ العمل على منصّة بديلة مع شركة “بلومبيرغ”، لتعويم وتوحيد سعر صرف الليرة اللبنانيّة، وتنظيم تدخّل مصرف لبنان في السوق. مع الإشارة إلى أنّ المجلس المركزي للمصرف قرّر إلزام نفسه منذ ذلك الوقت بمبدأ عدم المس بالاحتياطات الإلزاميّة المتبقية لديه، مع الإبقاء على أدوات التدخّل الأخرى في السوق، مثل شراء الدولار الأميركي مباشرة من السوق الموازية.
في الأيّام الماضية، بدأت الأنباء تتوالى عن تأجيل أو تعليق العمل بالمنصّة الجديدة، لأسباب عديدة من بينها عدم توفّر البيئة المناسبة لتعويم الليرة اللبنانيّة، وإخضاعها لمبادئ الطلب والعرض في سوق التداول الحر، وخصوصًا بعدما دخلت البلاد مرحلة التصعيد العسكري المحدود في الجنوب. وعلى هذا الأساس، باتت لبنان محرومًا من أي منصّة تداول رسميّة يديرها المصرف المركزي، بعدما تم تعليق العمل بالمنصّة القديمة، وتأجيل إطلاق المنصّة الجديدة.
إشكاليّات هذا الوقع كثيرة، ومنها حرمان المصرف المركزي من أدوات التدخّل الشفّاف والواضح في السوق، وخصوصًا إذا ما شهدت البلاد تصعيدًا عسكريًا إضافيًا (مرّة جديدة: الخاصرة الرخوة). ومن الطبيعي أن يغيب عن المشهد -إلى أن يتم إطلاق المنصّة الجديدة- أي وسيلة لتحديد سعر الصرف بشكل رسمي، من قبل مصرف لبنان، بمعزل عن قانونيّة أو عدم قانونيّة منصّة صيرفة التي لعبت هذا الدور سابقًا. أمّا الأهم، فهو تعليق كل مسار توحيد أسعار الصرف، بانتظار العودة لإطلاق آليّة تداول تحدد سعر الصرف العائم أو الموحّد.
لكل هذه الأسباب، ثمّة ما يدعو اليوم للقلق إزاء تعليق جميع المعالجات الماليّة والاقتصاديّة، في ظل التوتّر العسكري الذي تشهده المنطقة بأسرها. وهذه المعالجات، لم تعد ترفًا في ظل احتمالات التصعيد القائمة، بل وعلى العكس تمامًا، بات غيابها أحد أسباب هشاشة الوضع الاجتماعي والمالي، في حال تحقق سيناريوهات الحرب الشاملة. فحجم الاقتصاد الإسرائيلي يمثّل اليوم أحد عوامل قوّة العدو، وخصوصًا على مستوى دعم جهده الحربي وتعبئة الاحتياط، في حين أنّ اللبنانيين لم يُظهروا حتّى اللحظة الاهتمام الكافي بهذا المتغيّر، الذي يمثّل أحد عوامل قوّة الجبهة الداخليّة.