الإستثمارات هي عصب الإقتصاد! هذا القول ليس بجديد، لكنه يأخذ زخمًا قويًا مع بدء مرحلة النهوض الإقتصادي في لبنان. وبغض النظر عن القطاعات الواجب الإستثمار فيها والتي هي من مسؤولية الحكومة وسياستها الإقتصادية. إلا أنّ هناك مُشكلة تُطرح اليوم حول إمكانية تمويل القروض بهدف الإستثمار للقطاع الخاص مع حاجة سنوية تفوق الملياري دولار أميركي.
من المعروف أنّ تمويل الإقتصادات يتمّ من خلال طريقتين:
– الأولى، وهي تقليدية، من خلال القطاع المصرفي: لقد أثبت القطاع المصرفي اللبناني أنّه كان حاضرًا كل الوقت في خلال المرحلة السابقة والتي أقلّ ما يُقال عنها أنها كانت مليئة بالأحداث السياسية والأمنية. وعلى الرغم من ذلك، لبّى القطاع المصرفي اللبناني حاجات القطاع الخاص حتى فاق حجم القروض المصرفية له الـ 60 مليار دولار أميركي، أي أكثر من الناتج المحلّي الإجمالي!
بالطبع، لا يُمكن للقطاع المصرفي الإستمرار على هذه الوتيرة، نظرًا إلى مستوى المخاطر الذي يتحمّله نتيجة إزدياد المديونية العامّة، من دون أن يكون هناك من سياسة إقتصادية على الصعيد العام. لذا، يتوجّب على المصارف أخذ الحذر من الإستمرار بإقراض القطاع الخاص على وتيرة مرتفعة.
وهنا يجدر الذكر، أنّ ارتفاع الفوائد في المرحلة الماضية كان له تأثير إيجابي على تقليل نسبة المخاطر على هذا الصعيد.
– الثانية، وهي خاصة للإقتصادات المُتطوّرة، حيث يتموّل الإقتصاد من الأسواق المالية في الدرجة الأولى. وأهمية هذه الطريقة بالتمويل أنها تقوم بتوزيع المخاطر النظامية (Systemic Risk) على كل اللاعبين الإقتصاديين (Risk Mitigation). أضف إلى ذلك، القدرة الهائلة بالتمويل التي يُمكن للإقتصاد الإستفادة منها من خلال بورصة فعّالة بمعايير عالمية.
أيضًا، يُمكن القول انّ عولمة الأسواق المالية تسمح بفتح الأسواق على بعضها البعض، وقد يستفيد الإقتصاد المعني من إستثمارات أجنبية من خلال الأسواق المالية المحلّية مما يُشكّل رافعة للإقتصاد المحلّي.
فشلت بورصة بيروت التي تمّ إنشاؤها في العام 1920 أيام الإنتداب الفرنسي، في تحقيق الهدف المرجو منها، أي تمويل الإقتصاد على شكل واسع، حيث اقتصر التمويل على الشركات المُدرجة على هذه البورصة والتي لا يفوق حجمها الـ 11 مليار د.أ. وأسباب هذا الفشل عديدة وعلى رأسها كون هذه البورصة هي مؤسسة عامة!
المشروع الذي أطلقه حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، من خلال هيئة الأسواق المالية، والذي ينصّ على خصخصة هذه البورصة وإنشاء منصة تداول إلكترونية، هو مشروع أكثر من حيوي لحّل مُشكلة تمويل الإقتصاد اللبناني.
ففي الجوّهر، نرى أنّ هناك إرادة من المصرف المركزي وهيئة الأسواق المالية بالإستفادة من الآليات الموجودة في الأسواق المالية العالمية، عبر تطبيقها في لبنان، وبالتالي تأمين قدّرة تمويل لم تعدّ المصارف قادرة على تأمينها نظرًا إلى مستوى المخاطر.
الفكرة بحدّ ذاتها بسيطة وشبيهة بالـ NASDAQ، فهي موجّهة إلى الشركات الناشئة التي تتمتّع بحدّ أدنى من الجدّية (الحسابات والمشروع)، إذ يُمكنها تقديم طلب إدراجها على منصّة التداول الإلكتروني.
وفي حال قبول الطلب، تُصبح أسهم هذه الشركة موضوع شراء وبيع، وبالتالي ستتمكّن هذه الشركة من الحصول على الأموال التي ستستخدمها في عمليتها الإستثمارية.
لكن فكرة المنصّة لا تقف عند هذا الحدّ، فمن المُمكن أيضًا الذهاب أبعد من ذلك من خلال خلق سوق مشتقات على الأسهم والسلع. هذا الأمر يفرض بالطبع السماح بالـ short selling وبالتالي يُمكن إدراج عقود نفط وغاز كما وسندات الخزينة اللبنانية وغيرها من الأدوات المالية الأخرى مثل سوق الفوركس FOREX.
مصداقية هذه المنصّة تنبع من الأداء العالي لمصرف لبنان، هيئة الأسواق المالية، ولكن أيضًا مصداقية القطاع المصرفي الذي أثبت متانته وحسن الإدارة على الرغم من كل ما مرّ به لبنان. لكن تحرير هذه المنصّة يبقى رهينة السلطة السياسية التي لم تُفرجّ حتى الساعة عن بورصة بيروت. لذا المطلوب من الحكومة الإسراع في إقرار هذا الأمر وبتّه في أقرب جلسة لمجلس الوزراء رأفة بالإقتصاد اللبناني.
نجاح هذه المنصّة بالتأكيد له تأثير إيجابي على الحكومة وعلى سياستها الإقتصادية والمالية، لذلك يجب إزاحة هذه الملف عن الخلافات التي تؤدّي عامّةُ إلى إنقسام عامودي بين مكونات الحكومة، لاسيما المواضيع السياسية وعلى رأسها الملف السوري وملف مكافحة الفساد بمقاربته الشعبوية من قِبل البعض.
لذا نرى أنّ من الحكمة تمرير هذا الملف في مجلس الوزراء كأولوية وإبعاده عن النزاعات السياسية وعن الملفات الأخرى.
في الختام، لا يسعنا القول إلا أنّ الإبداع اللبناني يفلح في الخارج ويفشل في لبنان، والسبب يعود في الدرجة الأولى إلى عدم قدرة السلطة السياسية على تأمين مناخ مؤاتٍ لهذا الإبداع، من خلال قوانين تُحرّر القطاع الخاص من قبضة القطاع العام.