لم يعد خافياً أنّ مشروع قانون الموازنة المطروح يبحث عن المال “الفايش” و”المضمون” من خلال سلة الحسومات والتخفيضات التي تطاول بعض ابواب الإنفاق ومخصّصات موظفي القطاع العام من العسكريين والمدنيين ورفع نسبة الضرائب المباشرة من دون ابتداع أخرى. وإن سُئل عن الأسباب سيقال إنّ من بينها الإنقسام حول شكل الموازنة وحجمها واعتراف مسبق بالعجز عن إبتكار سواها أو جبايتها؟ لماذا وكيف؟
بعيداً من كل ما رافق البحث في مشروع قانون الموازنة العامة لسنة 2019 في الجلسات الحكومية من ردات فعل، فإنّ معظمها مشروع ومبرَّر إلّا لدى اصحاب نظرية “المؤامرة” في كل موقف ومحطة. فالبحث في سلسلة من الأبواب والبنود الخلافية في المشروع الذي أعدّته وزارة المال أثار المخاوف وتسبّب بالذعر لدى المستهدفين من مدنيين وعسكريين موظفين حاليين ومتقاعدين ما عدا المتعاقدين الجدد بالفاتورة او الساعة. فهؤلاء يدركون انّ دخولهم الملاك آتٍ يوماً ما لا محالة. فكل التجارب السابقة قالت إنّ مثل هذه الآليات المعتمدة ستقود تدريجاً الى المراحل اللاحقة ايّاً كانت العواقب الإقتصادية والمالية المقبلة. فهم على ثقة عمياء في أنّ مَن حقق الخطوة الأولى بالخروج على قرار منع التوظيف في القطاع العام المتّخذ منذ آب 2017 قادر على إتمام المراحل الأخرى أيّاً كان الثمن.
وتأسيساً على ما تقدّم، وعلى رغم من تعدّد السيناريوهات والروايات ومعها القراءات حول كل ما حصل ومن مواقع مختلفة، فإنّ المراقبين والمطلعين على كثير من الحقائق والتفاصيل يبوحون بكثير منها وهم لا ينكرون انّ ما حصل في الأيام الأخيرة الماضية قد خُطط له سابقاً على أكثر من مسار. ولذلك فإنّ بعض التحركات كانت مجرد “جسّ نبض” لما يمكن أن يقود اليه بعض المقترحات. فمشروع قانون الموازنة رُفع الى الأمانة العامة لمجلس الوزراء وسُحب منها أكثر من مرة منذ تشرين الأول في العام الماضي. وأحصى بعضهم في فترة الأشهر الثلاثة الأخيرة وصوله الى السرايا وإعادته الى وزارة المال لثلاث مرات على الأقل. وهو ما يثبت معرفة البعض بخريطة التجاذبات بين أهل الحكم التي رافقت كل ذلك.
وعليه فإنّ الحديث عن مجموعة التحركات التي قادها العسكريون المتعاقدون وموظفو مصرف لبنان وبعض المؤسسات العامة والهيئات المستقلة والمرفأ والضمان وكهرباء لبنان، لم يكن مجرد ردة فعل على الإشاعات التي بُثت. بل كان رداً متبادلاً بين اهل واركان السلطة اثناء تبادل المقترحات بشان ما يمكن أن يتضمنه مشروع الموازنة من خيارات تضاربت فيها المصالح ومواقع القوى فاستخدمت مختلف قدراتها في بعض المواقع الحساسة والمؤسسات لتبادل الرسائل في ما بينها.
ومن دون الدخول في كثير من التفاصيل، فبعد لقاء بعبدا ليل الإثنين الماضي يمكن الجزم انّ معظم التحركات كان هادفاً ومبنيّاً على معطيات دقيقة هددت المستهدفين ممّا هو مطروح من اقتراحات في مكاسبهم المشروعة وغير المشروعة. فالجميع يدرك أن ليس في الدولة اللبنانيةّ سلسلة رتب ورواتب موحّدة ولا صندوق تعاضد او تقاعد واحداً ولا ضمان صحياً موحّداً، ولا تقديمات ومخصصات متطابقة. ففي كل من القطاعات الكبرى ما يميزها ويصنفها عن الأخرى من دون وجود أيّ وجه شبه.
فكل التجارب السابقة الخاصة بمعالجة الرواتب والمخصصات كانت تبدأ بتسوية مطالب قطاع ما، قبل الإنتقال الى آخر. فصنّفت قطاعات القضاء عن الأجهزة العسكرية والأمنية وعن اساتذة الجامعة اللبنانية. وميّزت موظفي الوزارات عن موظفي المؤسسات العامة والهيئات المستقلة كما عن المؤسسات الإستثمارية. وهو ما قاد تلقائياً الى تصنيف موظفي القطاع العام بين “أبناء ست” و”أبناء جارية”.
وبعيداً من هذا المنطق السائد منذ عقود، فقد ظهر جلياً انّ الفشل الذي اصاب تقدير الواردات والمصاريف في موازنة العام 2018 فتح الباب امام السعي الى كسب ما هو سهل ومحدد من رسوم وضرائب وحسومات من مخصصات المواقع والقطاعات المختلفة، بدءاً من رأس الهرم وما دونه بما يضمن حجم ما هو مقدَّر من واردات. وكل ذلك له تفسيره بعد الفشل الذي اصاب توقعات الواردات في موازنة العام الماضي بما قارب الفضيحة عدا عن “الجريمة” التي ارتكبت في تقدير كلفة سلسلة الرتب والرواتب التي أُقِرّت “رشوة انتخابية” وبنحو عشوائي، فكانت النتائج الكارثية التي جناها اصحاب القرار الذي عُدّ “انجازاً تاريخياً”. فالجميع يعرف انّ ما أُقرّ كان على خلفية التحضير للانتخابات النيابية المفصلية التي رعتها تسوية سياسية انتهت الى تقاسم المغانم والنفوذ بين أقوياء هم انفسهم مَن هندسوا قانون الإنتخاب الجديد تحت شعار “النسبية والتمثيل الصحيح”، فأطاحوا النسبية شكلاً ومضموناً واهدافاً ومعاني.
وعليه، فإنّ الحديث عن روايات وسيناريوهات خاطئة وإشاعات قادت الى تحرّكات يبقى امراً غير صحيح على الإطلاق. فما هدّد موظفي مصرف لبنان واستقلاليته عن الحكومة ووزارة المال سوى ما يحكم به قانون النقد والتسليف لم يكن شائعة. وكذلك ما يهدّد الضمان من قرارات لجهة رفض إعادة امواله المتأخرة المقدرة بـ 2800 مليار ليرة والتمنّع عن دفع فوائدها ليس كذبة. والتهديد بحسم مخصصات المتقاعدين العسكريين وحرمانهم من بعضها ليس نكتة أو مجرد رواية والمَسّ بحقوق بقية الموظفين ليس حلماً او كابوساً فحسب.
وبناءً على ما تقدم، لا يمكن أيّ مراقب أن ينكر أنّ مشروع الموازنة الجديدة بُني على قاعدة جمع الأموال من الموظفين والفقراء قبل الأغنياء والمصادر المباشرة، لتصيب توقعاتهم في الموارد المقدرة. ولولا عجزهم المؤكد عن وقف التهرّب الضريبي، وعدم وجود قرار بضبط الفلتان الجمركي، وإقفال الحدود امام شبكات التهريب المنظم وعدم القدرة على مواجهة اصحاب النفوذ الذين تسبّبوا ببناء منظومة فساد تساوي 47% من اقتصاد البلد الطبيعي، لما ذهبوا الى “المال الفايش” والمال “المضمون”. فالأموال الأخرى “غميقة” مدفونة في مقاعد السلطة والنفوذ التي يتقاسمونها “ففتي ـ ففتي” في بعض المرات، عدا عن وجود مواقع “محصّنة” للبعض منهم لا يجرؤ أحد على مجرد التفكير في دخولها.