الموازنة ناقصة… والعجز ليس صفراً

جملة أحداث مالية ومصرفية طرأت خلال الفترة القليلة الماضية ابرزها اقرار قانون موازنة 2024 والتي اظهرت مناقشاتها وتعديلاتها الاستمرار في انكار اصل الازمة وتضييع الوقت وتمييع المسؤوليات بانتظار شيء ما يهبط من السماء. ولن يهبط!

السلطات السياسية والمالية تمرست في كيفية حرف الأنظار عن النقاش الحقيقي الى زواريب ضيقة ينحشر فيها المتناقشون في حوار طرشان. فالموازنة التي شغلت الناس طيلة أسابيع في تفاصيل ومماحكات وادعاءات بطولات وهمية من هذا وذاك منفصلة تماماً عن الواقع والازمة وتداعياتها.

أصل المشكلة الدين العام

أصل الازمة دين عام وصل 100 مليار دولار، وتبديد ودائع بنحو 100 مليار ايضاً. لا نقاش جدياً حول ذلك وتداعياته على المال العام الذي هو في صلب المحاسبة العمومية للدولة وبالتالي موازنتها. فلبنان توقف عن سداد سندات يوروبوندز كانت قيمتها الاسمية في آذار 2020، عند اتخاذ قرار تعليق الدفع، نحو 31 مليار دولار، وهي حالياً نحو 40 ملياراً مع فوائدها المتراكمة. لا أثر لذلك في موزانة 2024 التي كان يفترض انها اصلاحية وفقا لتوصيات صندوق النقد. الا يجدر ادراجها في المناقشات والتحوطات اللازمة رغم تعليق دفعها؟ الا يجدر ذكر خطر الفوائد المتراكمة عليها؟ وماذا قالت الموازنة او وزارة المالية عن اعادة هيكلة ذلك الدين واين اصبحت المفاوضات مع الدائنين؟ كل ذلك بقي خارج التناول الجدي ما يعني ان الموازنة غير متصلة بالواقع واسباب الازمة. فقد خلت المناقشات من علة علات الموازنات السابقة اي الدين العام وكلفته. وكأن شيئاً لم يكن من دون الاتيان على ذكر مؤونات او مخصصات هذه السنة او السنوات المقبلة التي يفترض ادراجها ولو نظرياً بانتظار الحل النهائي والذي لن يأتي من دون الاتفاق مع صندوق النقد الدولي والا سينقض الدائنون على لبنان في دعاوى دولية تهدد اصول الدولة وربما مصرف لبنان ايضاً في حالات معينة. اما لماذا مصرف لبنان فلأن الحاكم بالانابة وسيم منصوري ثبت في البيان الاخير للوضع المالي للبنك المركزي ان الخسائر وفقاً للمادة 113 من قانون النقد والتسليف يقع عبئها على الدولة، وهو بذلك قد يتماهى مع نظرية ان لا فرق ربما بين الدولة ومصرف لبنان قانونياً، وبالتالي سيحق للدائنين رفع دعاوى لأن مصرف لبنان ادرج ايضا 16.6 مليار دولار ديناً عاماً على الدولة ولم يناقش مجلس النواب هذا البند الخطير لا بل تجاهله كأنه غير واقع ولا مكان له في المحاسبة العمومية.

التسول للجيش وغيره

كما لم تأت المناقشات على كيفية البحث عن بدائل لمئات ملايين الدولارات تأتي لبنان حالياً من مساعدات عربية واجنبية للجيش وقوى الامن الاخرى وللصحة والتعليم وغيرها من المساعدات والتبرعات التي تصل الدولة ومؤسساتها. فهل يعتبر النواب ان سير الدولة ومرافقها سيستمر الى ما شاء الله على الشحادة والتسول، وان كثيراً من النفقات العامة لا يجب ذكرها في الموازنة لمجرد ان دولاً تشفق علينا؟ تلك النفقات هي نفقات عامة ويجب ادراجها عاجلاً ام آجلاً في الموازنة العامة للدولة للاستغناء عن التسول، وعندئذ نرى ما هي البطولات التي يمكن تجترحها وزارة المال والنواب تمجيداً للعجز الصفري.

تعويضات المتضررين

ثم اين اي هي النفقات التي ستطرأ حتما هذه السنة وبمئات ملايين الدولارات لتعويضات المتضررين من الحرب الدائرة جنوبا؟ واين هي المبالغ التي تعهد مصرف لبنان ان ينفقها بالليرة على منصة سداد مبالغ مستحقة للعراق متراكمة بأكثر من 1.7 مليار دولار، علماً بان السداد هو بمنتجات وخدمات لبنانية تورد الى العراق ويدفع ثمنها لبنان للموردين المحليين.

تهالك البنية التحتية

وما الحديث عن عجز صفري الا عبارة عن نعامة تدفن رأسها في الرمال كي لا ترى نفقات اخرى باتت اكثر من ضرورية لصيانة البنية التحتية وشبكة الطرقات والاتصالات وغيرها من المرافق التي تتهالك يومياً ولا تجد من يقف لحظة لدق ناقوس خطر داهم عليها كما حصل في مطار يدلف ماء وطرقات تعوم في فيضانات في كل مرة يهطل فيها المطر غزيراً. اما المرفأ واعادة بنائه فلا شأن للموازنة به بشكل مباشر اذ كل ما تريده وزارة المال هو ايرادات من المرفا كما من المطار والاتصالات من دون التفكير مع المؤسسات والشركات العامة التي تدير تلك المرافق بمصيرها المتردي يومياً؟

وللعلم فان الاتفاق مع صندوق النقد يهدف ايضاً الى الحصول على تمويل من دول ومؤسسات مالية عربية ودولية لتحديث البنية التحتية. وما تجنب مصير ذلك الاتفاق الا امعان في القول للبنانين ولو بشكل غير مباشر ان تلك البنية التحتية والمرافق ستصبح اكثر تهالكاً، والانكى ان هناك في مجلس النواب من يعول على ايرادات تلك الاصول والمرافق العامة لرد الودائع لاصحابها.

إنصاف القطاع العام

وفي جانب النفقات الجارية فعلى الرغم من السعي لتحسين اوضاع العاملين في القطاع العام فان الموازنة ببنود الرواتب والاجور والتقديمات والاعانات لم ترض الموظفين، اذ سارع فريق منهم الى اعلان الاضراب العام في كل المناطق اللبنانية. فصحيح ان القطاع العام بحاجة الى اصلاح وترشيق ومكننة لكن ذلك الاصلاح مؤجل من الحكومة والبرلمان معاً. ولا يمكن تجاهل مستحقات للصندوق الوطني للضمان الاجتماعي على الدولة دفعها وكانت بلغت في 2021 نحو 5 آلاف مليار ليرة (على سعر 1500 ليرة للدولار). فعجز الضمان عن تعزيز التقديمات لمئات آلاف المضمونين مرده ايضاً الى تلك المستحقات التي كانت بدأت وزارة المالية في دفع اقساط منها، الا ان الباقي عبارة عن مبالغ طائلة لو ردت على السعر االرسمي القديم للدولار لانقذت صندوق الضمان من ازمتة الكارثية التي يتخبط فيها حاليا.

لا إصلاح ضريبي

وخلت الموازنة، التى توالى عريضو الاكتاف على ضربها من كل حدب وصوب، من اي اصلاح ضريبي طالب به صندوق النقد. فاذا كان هناك في مجلس النواب من يدعي ان ذلك الاتفاق لم يمت فلماذا تجاهل الاصلاح الضريبي بحيث يخف العبء عن عموم الناس بضرائب غير مباشرة وزيادة ذلك العبء بشكل عادل على اصحاب الرساميل والمداخيل المرتفعة ومحققي الارباح المستدامة الارتفاع. فنفس الهيكل الضريبي العام المتبع منذ سنوات طويلة بقي في موازنة 2024 ولم يحرك النواب ساكناً على هذا الصعيد

إصلاح في الدقيقة الأخيرة

اما الاصلاح الذي اراده بعض النواب مثال رفع الضريبة على شركات الاموال من 17 الى 25% وفرض ضريبة استثنائية على الارباح الاستثنائية التي حققتها الشركات من اموال الدعم التي استهلكت اكثر من 10 مليارات دولار من اموال المو دعين فقد اتت في اللحظات الاخيرة لمناقشة الموازنة ولم تجد من يقف عند اهميتها ليقول انها بحاجة لدرس وتمحيص كي تأتي ثمارها كاملة.

300 ألف دولار

اما هل اعطت الموازنة ادوات اضافية لوزارة المال المتهمة بالتساهل والتسيب والفساد وعدم الجدية في الجباية، فمثال وحيد يكفي هو ان وزارة المال بحاجة الى 300 الف دولار لشراء وتركيب نظام يسمح بتلقي معلومات من الخارج لزوم جباية ضريبة 10% على ايرادات الاموال المنقولة للبنانيين في الخارج، وذلك المبلغ الزهيد غير مدرج في الموازنة بشكل محدد وصريح لهذه الغاية.

لا عذر

ولا يمكن للنواب التذرع بانهم ينتظرون ما يأتيهم من الحكومة بل يمكنهم اعداد وتقديم مشاريع قوانين اصلاحية من تلقاء انفسهم. يمكنهم اخذ المبادرة لكنهم يفضلون البقاء في مقاعد المتفرجين الى ان تأتي الكرة الى حضنهم وعندئذ يبدأ التشاطر على الحكومة ووزاراتها ومؤسساتها، كأن هؤلاء النواب عبارة عن خبراء اجانب دورهم تشخيص الامراض وفضحها لا معالجتها. ويتنساون ان ما اوصل البلاد الى ما هي عليه اليوم هو موازنات عاجزة ادمنت على القروض لسد تلك العجوزات، وعندما شحت اموال الاقتراض عمدت الحكومات وبتواطؤ او غض طرف من النواب الى مصرف لبنان وحاكمه السابق لتركيب طرابيش غير قانونية اورثت البلاد خسائر بعشرات مليارات الدولارات معظمها من اموال المودعين.

مصدرنداء الوطن
المادة السابقةجوني القرم يهرب إلى “التراضي”
المقالة القادمةحاصباني: صندوق النقد ينتظر الحلّ اللبناني!