إذا كانت المنظومة مقتنعة بأن إجراءاتها الإقتصادية لم توصل البلد إلى الهلاك! ألم ترََ نتائج مثل هذه السياسات على غير دول، انطلاقاً من المثل القائل “ما متت ما شفت مين مات”؟ ففي فنزويلا على سبيل المثال رفعت السلطات الحد الأدنى للأجور في أيار الفائت بنسبة 288 في المئة إلى 10 آلاف بوليفار (3.5 دولارات)، ومع هذا بقي هذا الدخل لا يشتري “كرتونة” بيض. ومثلها فعلت الزيمبابوي وإيران… وغيرها الكثير من الدول، من دون أن يؤدي رفع الأجور إلى أي تحسّن يذكر.
وعلى الرغم من كل الأمثلة “الفاقعة” ترتفع الأصوات الواعدة بزيادة الرواتب في لبنان، وهو ما سيؤدي بحسب الخبراء إلى “نتائج تضخمية خطيرة”، ذلك أن كل زيادة غير مبنية على رفع الانتاجية في مؤسسات الدولة ستمول من مصدرين لا ثالث لهما: طباعة الليرات أو فرض المزيد من الرسوم والضرائب. وفي الحالتين ستكون النتائج كارثية، وسيمتص ارتفاع الأسعار الزيادات في فترة قياسية من دون أن تضيف أي قيمة على الرواتب والأجور المتهاوية أصلاً.
والأخطر أن مثل هذه الإجراءات قد تدفع باتجاه التضخم المفرط، أي أن “التضخم لن يعود مقتصراً على ارتفاع الأسعار فقط، بل يصبح على شكل تبدُّلات يومية في أسعار السلع والمنتجات والخدمات، وتحديداً تلك الضرورية المفقودة من الأسواق”. ولا يشذ عن هذه الإجراءات القرار برفع سقف السحوبات من المصارف على أساس التعميم 151 إلى 8 أو حتى 10 آلاف ليرة للدولار. فماذا ينفع رفع السقف إذا أصبح سعر السوق الموازية 40 ألف ليرة أو أكثر. أما في حال رفع السقف مقابل تخفيض قيمة السحوبات وتوزيعها مناصفة بين النقدي والبطاقة الإئتمانية، فلن ينفع المودع، إذ إن أغلبية نقاط البيع تمتنع عن قبول البطاقات الائتمانية، وهي لا ترغب في تحرير أموال الزبائن مقابل حبس أموالها، خصوصاً أنّ الكثير من المصارف يرفض تحويل الشركات من حساباتها إلى حسابات موظفيها أو العملاء، ويطلب إحضار المبالغ نقداً، حتى لو كانت بالليرة، والبعض الآخر يفرض عمولة على أي تحويل.
وفي جميع الحالات فان حتمية ارتفاع سعر صرف الدولار سيحرم المودعين بعد فترة قصيرة من الاستفادة من مثل هذا الإجراء، ليبقى الحل الوحيد اليوم هو بالعمل على تخفيض سعر الصرف في السوق الموازية وليس زيادة الرواتب أو رفع سقف السحوبات وهذا لا يتم إلا من خلال البدء بالاصلاحات الجدية والاتفاق على الخسائر وكيفية توزيعها والدخول في مفاوضات مع صندوق النقد الدولي. إلا أن هذه الإجراءات المربحة للمواطنين تمثل خسارة الطبقة السياسية لنفوذها ومصادر دخلها. ولهذا يستمر إقناع المواطنين بالأسوأ، ودفعهم إلى “ترجي” ما يضرهم من خلال زيادة الرواتب ورفع سقف السحوبات… كأنهم بذلك يضعونهم بين “إبرة” زيادة الرواتب و”مسلة” ارتفاع الأسعار.