في غمرة الأسى المترافق مع نتائج الانهيار المتواصل، ورفض المنظومة الحاكمة وضع الأسس الصحيحة للإصلاح والخروج من الأزمة، تبرز مساحات للضحك، ترسمها المحاولات الدونكيشوتية التي تقوم بها المنظومة لسدّ الفجوات في بنيان الدولة المهترء. هي محاولات تحارب فيها المنظومة طواحين الهواء، أو سراباً يُخيَّل إليها أنها المسؤولة عن الانهيار. وأحد أبرز النتاجات المضحكة للمنظومة، سُجِّلَت رسمياً في مشروع موازنة العام 2023، عن طريق اقتطاع ضريبة مسبقة من وديعة المتوفّى المحتجزة أصلاً في المصارف، ورفع الرسوم على الأحياء بمعدّل 30 ضعفاً.
ضريبة محتجزة مع الوديعة
تتعاون الدولة مع المصارف للاقتصاص من المودعين وتدفيعهم ثمن الانهيار الاقتصادي والنقدي والاجتماعي. وإذا كانت الدولة قد غطَّت على مدى أربع سنوات، احتجاز المصارف للودائع بلا مسوّغ قانوني، فجاء الوقت لرد المصارف “الخدمة” للدولة، عبر مساعدتها على احتجاز ضريبة انتقال التركة على الودائع التي بحوزتها، عند وفاة المودع.
فالمادة 31 من قانون موازنة العام 2023، تُلزم المصارف بـ”عدم تسليم الوديعة إلى الوَرَثة إلا بعد اقتطاع 3 بالمئة منها”. بمعنى آخر، أن كل صاحب وديعة محجوزة في المصارف، قَد دَفَعَ مسبقاً قبل وفاته، ضريبة انتقال على وديعته بوصفها تركة. على أن تبقى الضريبة، كما الوديعة، محجوزة لدى المصرف، لحين وفاة صاحبها وحضور ورثته لاستلامها ناقصة نسبة الـ3 بالمئة المنصوص عليها في القانون.
أما إذا كانت المبالغ مودعة بإسم المتوفى وإسم آخر أو أكثر، فبحسب الموازنة “يتوجّب على المصارف اقتطاع نسبة 3 بالمئة التي تتوافق مع عدد المستفيدين من تلك المبالغ”. ولضمان الشفافية “على المصارف أن تصرِّح فصلياً لوزارة المالية، عن قيمة المبالغ التي تم الاقتطاع منها وعن قيمة المبالغ المقتطعة وأسماء أصحاب الحسابات”.
وتنطلق فلسفة هذه المادة، من ضمان عدم التهرُّب من الضريبة. فالدولة تريد حماية مستحقاتها من احتمال تهرُّب الوَرَثة من دفع الضريبة بعد فك حجز الوديعة. وعليه، تسارع الدولة لتحصيل حقوقها على حساب حقوق المودعين الذين مات الكثير منهم بحرقة قلب احتجاز وديعته، فيما لا يملك ثمن دواءٍ أو علاج.
ارتفاع رسوم المعاملات
إلى حين وفاتهم، على المودعين وغيرهم من المواطنين، دفع رسوم إضافية بنسبة 30 ضعفاً على نحو 111 معاملة تُنجَز في إدارات ومؤسسات الدولة، ومنها على سبيل المثال لا الحصر، إخراجات القيد ومعاملات تسجيل الولادات والوفيات، والحصول على السجل العدلي.. وما إلى ذلك من معاملات ينجزها المواطنون بشكل شبه يومي.
والمثير للسخرية، أن رفع قيمة رسوم تلك المعاملات رسمياً، عبر المادة 43 من قانون الموازنة، يترافق مع ارتفاع محسوم لقيمة الرُشى التي تُدفَع لإنجاز المعاملات. فإخراج القيد الذي كانت قيمة رسومه تصل قبل العام 2019 إلى نحو 4000 آلاف ليرة، كان صاحب المعاملة يدفعها بقيمة تتراوح بين 10 و20 ألف ليرة، من ضمنها الرشوة و”أتعاب” معقِّب المعاملات. وبين العام 2019 و2023، ارتفعت الكلفة إلى نحو 300 ألف ليرة. ومع إقرار الزيادة بمعدّل 30 ضعفاً، سيدفع المواطن نحو مليون ليرة لكل معاملة رسمية.
واللافت للنظر أن الدولة تريد بتلك الزيادة تحقيق التوازن المالي بشكل أو بآخر عن طريق تصحيح قيمة الرسوم المستوفاة على المعاملات الرسمية، لكنها في الوقت عينه، تحرم موظفيها من زيادة رواتبهم وأجورهم، رغم أنها تُحصِّل إيرادات بحجّة ارتفاع سعر الصرف وعدم تناسب إيرادات الضرائب والرسوم مع نفقاتها.
منذ اللحظة الأولى لتحليق سعر صرف الدولار وانهيار قيمة الليرة، سارعت المصارف إلى احتجاز أموال مودعيها بغطاء من الدولة، خلافاً لقانون النقد والتسليف وأحكام الدستور. وعلى مدى 4 سنوات، حاولت الدولة تغطية عجزها بفرض ضرائب ورسوم على المواطنين بشكل مباشر وغير مباشر. فارتفعت أسعار السلع والخدمات بموجب زيادة الضرائب، وبقيت الرواتب على حالها، ما خلا دعمها بمساعدات اجتماعية تتأخّر عملية قبضها فتتبخَّر قيمتها. على أن تلك المبالغ لا تدخل في صلب الرواتب، أي أنها بلا قيمة حالية أو مستقبلية كتعويض لنهاية الخدمة. فالدولة إذاً، وبموازنة العام 2023، تدق إسفيناً جديداً في نعش شعبٍ لم يعد يستغرب بحث دولته عن أساليب جديدة لقهره.