في خطوة تعكس حجم الغضب الشعبي ضدّ السياسة المالية في لبنان، نظّمت جمعية “صرخة المودعين” احتجاجاً في وسط بيروت، حيث تظاهر المودعون أمام مسجد الأمين، ومن هناك انطلقوا إلى منطقة الدورة، مهاجمين مصارف البنك اللبناني الفرنسي، البنك العربي، بنك الإمارات ولبنان، وبنك بيروت والبلاد العربية. ولم تكن هذه الاحتجاجات مجرّد تعبير عن الاستياء بل كانت “انتفاضة” ضدّ ما يَرونه سرقةً منظّمةً لأموالهم.
ما حدث ليس مجرّد ردّ فعل غاضب؛ بل هو رسالة واضحة للنظام المالي والحكومة بأنّ “سياسة التجاهل لم تَعُد خياراً”، فالمودعون الذين حُجزت أموالهم في المصارف منذ أكثر من 5 سنوات يشعرون بأنّهم ضحايا لمؤامرة تقودها الحكومة بالتعاون مع المصارف. والحجة الرئيسة للمودعين هي أنّ الحكومة، بدلاً من إيجاد حلول جدية، تُروّج لخطط وصفوها بـ “الشيطانية”، وتهدف إلى إبقاء الودائع رهينة بين أيدي المصارف، مع فرض رسوم شهرية باهظة تزيد من معاناتهم.
لم يكتفِ المودعون بالاحتجاجات فقط، بل أطلقت جمعية “صرخة المودعين” تحذيرات بأنّ خطط الحكومة الحالية، المدعومة من المصارف، لن تؤدّي إلّا إلى تدمير معظم الودائع. فهم يطالبون بتغيير فوري في سياسة سحب الدولار المصرفي ليتم على السعر الرسمي، وإيجاد حَلّ شامل وعادل لكافة الودائع، خصوصاً لمودعي الليرة اللبنانية الذين فقدوا جزءاً كبيراً من مدّخراتهم مع تدهور قيمة العملة المحلية. بالإضافة إلى ذلك، يرى المودعون أنّ لا إمكانية لعودة الثقة المحلية والخارجية بالنظام المصرفي اللبناني إلّا بحال أوفت المصارف بالتزاماتها القانونية تجاه مودعي الأموال لديها.
هنا يكمن جوهر الأزمة؛ إذ يشعر المودعون بأنّهم عالقون في شبكة من السياسات المالية التي تعمّق الأزمة بدلاً من حلّها. فما يحدث ليس إلّا انعكاساً لفشل النظام المالي في الحفاظ على حقوق المودعين الذين يَرون أنّ ودائعهم “نُهِبت بطرق ملتوية من خلال فرض أسعار صرف غير عادلة وتطبيق قوانين تحابي المصارف على حساب المواطنين”. ويبدو أنّ المودعين مستعدّون للتصعيد إذا استمر الوضع على ما هو عليه.
ولم تكن بلا دعم تحركات المودعين؛ إذ شارك في الاعتصام وزير المهجّرين عصام شرف الدين والنائبان نجاة صليبا وملحم خلف، معبّرين عن تأييدهم لمطالب المودعين. وربما تكون هذه الاحتجاجات بمثابة الإنذار الأخير للحكومة التي تسعى إلى إعادة هيكلة القطاع المصرفي بمساعدة من جمعية المصارف. لكنّ مشروع القانون المطروح من قِبل مجلس الوزراء لا يزال مَحلّ جدل كبير، خصوصاً وأنّ جمعية المودعين والخبراء الماليِّين والقانونيِّين يرفضون هذه الصيغة لاعتبارها بمثابة عملية احتيال كبيرة تؤدّي إلى تدمير النسبة الأكبر من الودائع، بالتالي ضياع أموال وحقوق الناس من أجل “نخبة مالية” تُهَيمن مالياً على البلد. في النتيجة إنّ المشروع الجديد، الذي تم تعديله بناءً على مطالب المصارف، يبدو وكأنّه محاولة أخرى لتحميل الدولة عبء الديون العامة بدلاً من تحميل المصارف مسؤولية إدارة الأزمة.
وتعتمد الخطة الحكومية الجديدة على تحويل جزء من الودائع إلى ديون عامة، وهو ما سيزيد من الضغط على الميزانية العامة وسيهدّد أي اتفاق محتمل مع صندوق النقد الدولي. لكنّ المثير للقلق أنّ الخطة المقترحة تتركّز على معالجة الودائع الصغيرة فقط (بحدود حوالى 100 ألف دولار)، بينما يتم تجاهل الودائع الأكبر التي تتجاوز الحدود المضمونة. هذا يعني أنّ كبار المودعين، الذين يشكّلون جزءاً كبيراً من الاقتصاد اللبناني، سيضطرّون إلى قبول شروط مجحفة أو مواجهة خسائر كبيرة. كما أنّ الخطة تتضمّن اقتراحات بتحويل الودائع إلى أسهم في المصارف، لكن مع شروط تمنع تملك المودعين لأغلبية الأسهم، ممّا يزيد من تعقيد الحلول المطروحة.
في الوقت الذي تتحدّث فيه الحكومة عن إعادة هيكلة القطاع المصرفي، تبدو هذه الخطط كأنّها محاولة لدفن الودائع وتجاهل المسؤولية الحقيقية للمصارف في الأزمة. وبدلاً من تقديم حلول جذرية تُعيد الثقة بالنظام المصرفي، يتمسّك النظام الحالي بسياسات تزيد من التمييز بين الودائع القديمة والجديدة، ممّا يُعمّق الانقسامات الاقتصادية والاجتماعية في البلاد.
في النهاية، يبدو أنّ مشروع القانون الجديد يسير في اتجاه يجعل من الأزمة الاقتصادية الحالية مجرّد بداية لمزيد من التحدّيات. فبدلاً من تقديم حلول مستدامة، تعتمد الحكومة على تحميل الدولة المزيد من الديون، ممّا يزيد من عدم اليقين بشأن مستقبل لبنان الاقتصادي. وإذا استمرّ هذا الاتجاه، فإنّ الغضب الشعبي قد يتحوّل إلى قوة في الشارع لا يمكن تجاهلها، ممّا يزيد من تعقيد الوضع السياسي والاقتصادي في البلاد. إذاً، إنّ الاحتجاجات الأخيرة بمثابة تحذير واضح بأنّ سياسة التسويف والتجاهل لم تَعُد مجدية. وإذا لم تتم الاستجابة لهذه المطالب، فإنّ لبنان قد يكون على أعتاب أزمة أكبر قد تعصف بكل ما تبقى من استقرار هَشّ في البلاد.