شكَّلَت عمليات اقتحام المصارف الملجأ الأخير لاستعادة الودائع، بعد استنفاد الوسائل السلمية الأخرى، مثل انتظار إقرار قانون الكابيتال كونترول أو إعادة هيكلة القطاع المصرفي أو البتّ القضائي بدعاوى المودعين المرفوعة ضدّ المصارف، ما خلا القليل من القرارات التي ألزمت بعض المصارف بردّ الودائع لأصحابها.
لكن مع استمرار الحرب في الجنوب والتلويح باحتمالات تصعيدها، وما يحمله ذلك من انعكاسات مادية تجعل المودعين يفكّرون بأموالهم المحتجَزة، يعود تفكير المودعين بإمكانيات التصعيد ضد المصارف، كي لا تُطوى صفحة قضيّتهم، سيّما وأن المصارف تلتمس طرق استعادة قدرتها على التسليف. فهل التصعيد ممكن، أو ما عادت الكلمة للمودعين في تقرير مصير أموالهم؟
البحث عن حلول
من الملفت للنظر أن تتزامن دعوة جمعية المصارف إلى إيجاد التشريع المناسب لتسهيل فتح الباب أمامها لإعطاء القروض، والتذرُّع بمساهمتها في إعادة أموال المودعين، مع اعتقال مودعٍ وزوجته حاولا استعادة أموالهما المحتجزة في أحد المصارف. وهي العملية اليتيمة بعد هدوء طويل منذ بداية الحرب الإسرائيلية على الجنوب. إذ كانت عمليات اقتحامات المصارف ذات وتيرة أعلى.
في الشكل، يسعى كلّ طرف لإيجاد حلٍّ لمشكلته. فالمصارف تريد استعادة قدرتها على التسليف والاستفادة من الفوائد. والمودعون يريدون استعادة أموالهم.
وفي المضمون، تميل الدفّة لصالح المصارف التي تجد مَن يحميها ويعطيها الوقت لبحث سبل استعادة نشاطها، فيما المودعون يخسرون آخر احتمالات استعادة أموالهم، من خلال اعتقالهم كلّما حاولوا أخذ ودائعهم بالقوة. وهو ما حصل يوم الأربعاء الماضي مع المودع معروف البيطار وزوجته خديجة العريني. إذ اعتقلتهما القوى الأمنية بعد اقتحامهما بنك التمويل العربي، وأخذت منهما مبلغ 13 ألف دولار كانا قد تمكَّنا من استعادته من المصرف. وأعيد المبلغ إلى خزنة البنك وأودِعَ الرجل وزوجته الزنزانة.
خوف من تصعيد الحرب
اقتحام المصارف أو إحراق واجهاتها أصبح خياراً أقل تأثيراً مع مرور الوقت، منذ بدء الانهيار في العام 2019. لكن في كلّ مرّة تحصل فيها انعطافات صعبة في لبنان، يصعِّد المودعون تحرّكاتهم. والحرب إحدى المنعطفات الكبيرة. لكن ردّ فعل المودعين “مرتبك نوعاً ما في ظل الحرب”، وفق ما تقوله مصادر متابعة لملف المودعين، إذ أن “الخيار الأوّل كان التهدئة وعدم التصعيد وتوتير الأجواء في البلد في ظل الحرب”. وباستثناء عملية اقتحام المودع إسماعيل صليبي لفرع بنك فينيسيا في مدينة صور، في نهاية شهر تشرين الأول الماضي، لم تحصل عمليات تصعيد من قِبَل المودعين ضدّ المصارف.
إلا أنه مع “طرح المصارف فكرة تسهيل التسليف وفي ظل الحرب ونسيان الدولة والمصارف لقضية المودعين، بات التصعيد ضرورياً لإعادة التذكير بأن هناك قضية محقة يُمنَع تجاهلها”. وتؤكّد المصادر أن “احتمالات تصعيد الحرب ضد لبنان يعني ضرورة تسريع إيجاد حلّ لقضية المودعين، لتمكينهم من الاستفادة من أموالهم في مواجهة تداعيات الحرب على المستويات المعيشية والطبية وغيرها”.
ورغم سعي المودعين لتحريك قضيّهم في ظل استمرار الحرب وعدم وضوح اتجاهاتها ومداها الزمني، إلاّ أنه لا حلول مطروحة بشكل حاسم. لكن عدم تكافؤ موازين القوى بين المصارف والمودعين، يسمح للطرف الأوّل بامتلاك تَرَف النقاش واقتراح الحلول التي تناسبه، ودعوة الجهات المعنية إلى تبنّيها كمدخل للخروج من الأزمة، في حين أن الطرف الثاني الأضعف، لا يملك سوى انتظار السلطة السياسية أو الذهاب نحو التصعيد من خلال العنف والاقتحام، وهو خيار تستغلّه المصارف للضغط على السلطة السياسية لتسريع إيجاد الحلول التي تناسبها، على حساب المودعين.
عدم الثقة
مع ضعفهم من الناحية العملية “لم يعد أحد يستطيع الضحك على المودعين وإيهامهم بإعادة أموالهم بعد هذه السنوات”، وفق ما يقوله لـ”المدن” الرئيس السابق للجنة المودعين في نقابة المحامين والأستاذ المحاضر في قانون الضرائب والمالية العامة، المحامي كريم ضاهر، الذي يؤكّد أن “لا ثقة للمودعين بما تقوم به المصارف والسلطة السياسية”، فهما طرفان أسقَطا محاولات إيجاد الحلول الصحيحة لأنها ستُسبَق بـ”إعادة الانتظام المالي وبإعادة هيكلة المصارف وتحديد مسؤولياتها وإعادة رسملتها والنظر في أخطاء إداراتها الحالية. وبالتوازي، تحديد مسؤوليات الدولة وكيفية تحصيل المبالغ المالية التي خرجت من النظام المصرفي بصورة غير عادلة”.
وما يتم العمل عليه اليوم كحلّ عبر تمكين المصارف من إعادة التسليف “يعني وضع العربة أمام الحصان، وبالتالي تسديد الأموال للمودعين بعد 100 سنة. علماً أن كل الدراسات أثبتت أنه لا إعادة للودائع في الحالة الراهنة. فإذا لم تُستَرَد الأرباح التي وُزِّعَت على المصارف عبر الفوائد المرتفعة أو في الهندسات المالية، فلن تُستَرَد الودائع قبل فترة طويلة”. وبالتالي، فإن الحلول المطروحة من المصارف والسلطة السياسية لا تتناسب مع المطلب الأساسي وهو إعادة الودائع.
الاقتحامات ممنوعة
إذا كانت الحلول الصحيحة معدومة بالاستناد إلى ممارسات السلطة السياسية وإلى ما تروِّج له المصارف أخيراً، فإن استعادة المودعين أموالهم عبر اقتحام المصارف يبقى هو الحلّ الأخير وإن لم يكن الأفضل. لكن هذا الخيار تشوبه عوائق، منها تراجع التغطية الإعلامية والتعاطف الشعبي اللذان كانا يشكِّلان في بداية الأزمة حالة ضغط على المصارف والسلطة السياسية. فضلاً عن انقسام المودعين بين روابط وجمعيات واتحادات وتجمّعات مختلفة يملك كلٌّ منها رؤيته للحلّ وأسلوبه بالضغط. وأيضاً “لم يعد هناك إمكانية كبيرة لإيجاد محامين يتفرّغون لقضايا المودعين مجاناً”، على حدّ تعبير المصادر التي تشير إلى أن “الرأي العام اللبناني ما عاد قادراً على متابعة ملف المودعين كما كان سابقاً. فالكل لديه همومه ومشاكله. حتى أن اقتحام المصارف بات يؤثّر سلباً على المواطنين، لكونه عامل توتُّر للأجواء اليومية المشحونة. كما يبقى هناك تخوُّف من استغلال أي عملية اقتحام لتنفيذ أعمال مخلّة بالأمن من قِبَل جهات أخرى”.
والأهمّ من ذلك كلّه، هو أن المودعين أصبحوا حلقة ضعيفة في ظل “وجود قرار من أعلى المستويات القضائية والأمنية والسياسية والمصرفية، بقمع عمليات اقتحام المصارف”، وفق المصادر. وهذا القرار يعني بوضوح أن اقتحام المصارف ممنوع، وبرز ذلك من خلال الاعتقالات التي طالت مقتحمي المصارف منذ العام الماضي، فيما كانت القوى الأمنية في السابق تتساهل مع المودعين المقتحمين، وتسوقهم شكلياً إلى المخافر بعد كل عملية، لأخذ الإفادات قبل إطلاق سراحهم، وهو ما لا يحصل حالياً. وهذا الإجراء بدوره يكبح رغبة مودعين آخرين ربّما يفكّرون بتحرير ودائعهم عبر اقتحام المصرف.