لبنان من البلدان القليلة التي سمحت لها الولايات المتحدة الأميركية بإجراء مَقاصّة بالدولار محلياً وليس في نيويورك. في سنوات سابقة، لوّحت واشنطن بإغلاق غرفة المقاصّة بعد اتهامها مصارف بـ«التعامل مع حزب الله». واليوم، يبقى هذا «السلاح» موجّهاً صوب لبنان، فيعتبر مصرفيون أنّ تفعيله ستكون له آثار كارثية على البلد
سنة 2014، اتهمت الولايات المتحدة الأميركية مصرف «بي أن بي باريبا» الفرنسي بخرق قانون العقوبات بحقّ كوبا وإيران والسودان، ولا سيّما في مجال النفط. جرى تهديده بدفع غرامة 8.9 مليارات دولار أميركي، ومُنع لمدة عام من إجراء المَقاصّة في نيويورك. فبدلاً من التوجه مباشرةً إلى الاحتياطي الفيدرالي الأميركي لتحويل الدولار إلى مصارف أخرى، بات لزاماً على «بي أن بي باريبا» أن يتعامل مع مصرف آخر عضو في الاحتياطي الفيدرالي لتسهيل عملياته، مع ما يعنيه ذلك من تكبّد المزيد من الأموال وخسارة عدد من العملاء. الإجراء الأميركي اتُّخذ بحق أحد أكبر البنوك في فرنسا الذي ينفّذ المَقاصّة الخاصة به في نيويورك، وتُعدّ الدولة الفرنسية المُساهم الأول فيه، وهي شريكة واشنطن في حلف شمالي الأطلسي.
لم يردع أي «معيار» الفيدرالي الأميركي من اتخاذ قراره «العقابي»، فكيف إذا كان الفريق المعني دولة «ضعيفة»، وتُعاني أصلاً من مشكلة «بنيوية» في الدفاع عن سيادتها السياسية والاقتصادية والأمنية والثقافية؟ لبنان، مثلاً. بين أيدي الولايات الأميركية المتحدة سلاحٌ «أخطر» من الأسلحة الحربية، ويوازي بأهميته سلاح العقوبات الاقتصادية، وإذا ما استخدمته «فسيكون فتّاكاً»، على حدّ تعبير مصرفيين. «كرة النار» التي قد ترميها واشنطن بوجه لبنان، هي وقف مَقاصّة الشيكات بالدولار. ولا يُبقي لبنان بمنأى عنها سوى «رهان البعض» على أنّ واشنطن تُريد «القضاء على حزب الله، عبر تسديد ضربات مُحدّدة، وليس تدمير النظام اللبناني».
المقاصة في «كوكب المال»، تعني عملية تبادل للشيكات بين المصارف، والتي عادةً ما تتمّ في الدولة التي تُصْدِر العملة التي تُحرّر الشيكات بها. لبنان يملك «امتيازاً» عن باقي الدول، بأنّه «قد» يكون «مُتفرّداً» بإجراء مقاصة الشيكات بالدولار الأميركي محلياً، من دون أن تمر العملية بنيويورك أو عبر مصارف المراسلة، باستثناء الاعتمادات المفتوحة لتمويل التجارة الخارجية والتحويلات من لبنان إلى الخارج وبالعكس، علماً بأنّه في النهاية مصير كلّ الشيكات الوصول إلى نيويورك، ولكن الرقابة تكون لاحقة.
تتمّ المقاصة بين المصارف لدى البنك المركزي منذ عام 1994، بعدما كانت تقوم بها منذ الثمانينيات شركة «لبنان المالية». اتُّخذ القرار بالاتفاق مع الإدارة الأميركية، وطويلاً تغنّى الحاكم رياض سلامة، عبر المحيطين به من سياسيين ومسؤولين ورجال أعمال وإعلاميين، بأنّه «الوحيد الذي تمكّن من ذلك».
فمن «امتيازات» إجراء المقاصة محلياً، أنّ المدة اللازمة للتأكّد من الشيكات وإيداعها في حسابات الزبائن أو سحبها منها، تتراوح بين ثلاثة أيام وسبعة أيام، فيما إرسالها بدايةً إلى نيويورك والمرور بكلّ المراحل الطبيعية كان يتطلب أسابيع. النقطة الثانية، أنّه «رسمياً» لا تقدر الولايات المتحدة أن تعرف المعلومات المرتبطة بالشيكات. ولكن «راحة بال» واشنطن مؤمنة، عبر «عيونها المحلية» التي تحرص على أن لا يفوت الإدارة الأميركية أي تفصيل. أُسقطت المقاصة كـ«حبّة الكرز» على قالب «دولرة الاقتصاد المحلّي»، أحد الأسباب العميقة للأزمة الحالية. يقول أحد كبار الأساتذة الجامعيين في الاقتصاد إنّ «ربط العملة المحلية بالدولار كان الضربة الحقيقية. أدّى ذلك إلى تثبيت سعر الصرف ورفع الفوائد منعاً لهروب الودائع، عوض الموازاة بين الادخار والاستثمار». سادت سياسة «انكماشية نقدية، أي امتصاص الدولارات من السوق وخلق الاعتماد لفئة مُحدّدة من الناس. فلكلّ سياسة مالية أو نقدية بُعد طبقي»، وفي لبنان معروف بخدمة مَن وُضعت هذه السياسة. بالنسبة إلى الأستاذ الجامعي، «ساعة تشاء أميركا، تقدر أن تُدمّر لبنان. وهذا الأمر لا يتعلّق فقط به، بل بكلّ البلدان المديونة والفاقدة لسيادتها النقدية». ويزيد الخبير المالي، دان قزي بأنّ ربط الليرة بالدولار وتثبيت سعر الصرف على الـ 1500 ليرة كانت له آثار إيجابية، ولكن أدّت إلى فقدان قدرة لبنان على بناء سياسة نقدية مستقلة.
ربط الليرة بالدولار «نَزَع السيادة عن العملة الوطنية، وبات عملياً الدولار هو العملة الحقيقية». في هذا الإطار، كتب أستاذ الجامعة الوطنية في سنغافورة وجامعة لندن للاقتصاد، علي القادري سابقاً في «ملحق رأس المال» أنّه إن «قرّرت الولايات المتّحدة أن تؤخّر الدفعات اللازمة لتمويل الإنفاق المستقبلي عبر المزيد من الديون، فإن بيت الورق هذا قد ينهار بأكمله». الأمر نفسه ينطبق على مقاصة الشيكات بالدولار. وقد لوّحت الولايات المتحدة سابقاً بوقف المقاصة بالدولار محلياً، بعد قضية البنك اللبناني ــــ الكندي، واتهامه بـ«تبييض أموال لمصلحة حزب الله»، قبل شرائه من قبل مصرف «سوسيتيه جنرال».
يجري طرح خلق عملتين: واحدة للتبادل الخارجي، وأخرى للتداول الداخلي
رغم ذلك، يُقلّل خبراء ماليون من التأثير التي قد يتسبّب به وقف المقاصة «بعدما فرط الوضع داخلياً، وتراجعت نسبة الدولرة، وفقدان العملة الخضراء داخلياً». ويُضيف الخبير الاقتصادي والمالي فريدي باز إنّ «ما تقوم به الولايات المتحدة على صعيد العقوبات كافٍ، وربّما تشدّدها أثّر على حركة الرساميل الوافدة، المضروبة أصلاً بعامل الثقة». يقصد بكلامه أنّ وقف المقاصة المحلية ربما لن تكون له تبعات قاسية، «فالمقاصة مسألة محلية وتتم بالليبانو ــــ دولار». تكون واشنطن بالمرصاد «لكلّ عمليات التحويلات بين المصارف المحلية ومصارف المراسلة، كما أنّها تفرض ضوابط على التعامل بالأوراق النقدية، وتُخضعها لمراقبة دقيقة حتّى تتأكد أنّها لا تصل إلى قوى موضوعة على لائحة العقوبات».
بحسب أرقام مصرفية رسمية، بلغ عدد الشيكات المتقاصة بالدولار العام الماضي (بين 20/1/2019 و20/12/2019) 5 ملايين و570 ألفاً و417 شيكاً، بما قيمته 34 ملياراً و919 مليون دولار. أما بين 20/12/2019 و20 كانون الثاني 2020، فقد بلغ عدد الشيكات 423 ألفاً و680 شيكاً، بقيمة 4 مليارات و417 مليون دولار. الأرقام تراجعت عن السنتين الماضيتين، ولكن رغم ذلك تبقى مرتفعة. تنطلق مصادر مصرفية من هذه المعطيات لتسأل: «هل نتصوّر ماذا سيحلّ بنا إن أوقفت الولايات المتحدة المقاصة؟ أي مصرف مراسلة سيقدر أن يواكب النسبة الكبيرة من الشيكات المتقاصة؟ وكم ستأخذ العملية وقتاً حين يُصبح إلزامياً مرورها بنيويورك وفرض رقابة مُسبقة عليها؟». ما العمل في هذه الحالة؟ يردّ المصدر بأنّ علينا أن «ننتظر حتى لا يعود الدولار عملة التداول والادخار العالمية. هذا جزء أساسي من الحرب الأميركية ــــ الصينية اليوم، ونحن لن يكون لنا دور بها». بالنسبة إلى الأستاذ الجامعي، «القصة بحاجة إلى قرار سياسي وإعادة بناء قدراتنا الداخلية». يطرح خلق عملتين: «واحدة للتبادل الخارجي، وأخرى للتداول الداخلي. العملة هي المسألة السيادية الأساسية، لا يُمكننا أن نُساوم بهذه القصة».
باز: تنتهي المقاصة بقرار من «المركزي»
في نهاية العام الماضي، طرح الخبير الاقتصادي والمالي فريدي باز، في مقابلة مع «النهار»، وقف المَقاصّة بالدولار. يشرح في اتصال مع «الأخبار» أنّه حين اقترح الأمر لم يكن الانهيار قد وقع كليّاً بعد: «منطلق طرحي كان لتخفيف الطلب على الدولار، ونُعيد للعملة المحلية دورها السيادي كعملة تبادل وليس عملة ادّخار. في السنوات السابقة، كنت أقول إنّ إلزام التجار بأن تكون الأسعار بالليرة غير كاف، وعلى الحكومة أن تُلزم التبادل بالليرة، لكون دولرة الاقتصاد من المُسببات الأساسية للانهيار الكبير». السبب الثاني للطرح أنّ «حجم المَقاصّة الاجمالية (شيكات، بطاقات إلكترونية، التحاويل) وصلت، في الحدّ الأدنى، إلى 80 – 85 مليار دولار. أرقام لا يستطيع البلد أن يحملها». ويقول باز إنّ المقاصة بالدولار بدأت «بتعميم من مصرف لبنان، وتنتهي بقرارٍ منه».