بعد ثمانية أشهر من الزيادة والتخفيض، أبصرت موازنة العام 2019 النور بعجز إفتراضي قُدّر بـ 7,6 في المئة من حجم الناتج المحلّي الإجمالي. وقتذاك، ولمن يذكر فقد بُنيت الموازنة على أرقامٍ متوقّعة للنفقات بـ 23,3 ألف مليار ليرة (15,5 مليار دولار)، وحوالى 19,1 ألف مليار ليرة (12,7 مليار دولار) للواردات. الموازنة التي حبكت بإبرة الحائك لنيْل رضى مانحي “سيدر” تضمّنت زيادات ضريبية، وُصفت بالعشوائية وغير النافعة، وعصراً للنفقات كان يبدو أنه رخو.
فرَض نشر وزارة المالية ملخّص الوضع المالي للأشهر التسعة الأولى من العام الحالي، العودة إلى التمحيص في أرقام موازنة العام 2019. أهمية الأرقام المنشورة، وتحديداً لجهة الإيرادات، لا تؤكّد ما نادى به الخبراء من أن زيادة الرسوم والضرائب في حالة الإنكماش تكون نتائجها عكسية فحسب، إنما تُسقط الحجّة التي من المتوقع ان تستخدمها السلطة بإلقاء اللوم على الثورة لتبرير تراجع الإيرادات.
مسار التراجع الفعلي في إيرادات الدولة، وتحديداً من الرسوم الجمركية والضريبة على القيمة المضافة بدأ منذ آب العام الحالي. فهوت عائدات الضريبة على القيمة المضافة TVA من 539219 مليون ليرة في تموز العام الحالي إلى 178313 مليوناً في آب و167860 مليوناً في شهر أيلول، وبلغت مجمل العائدات المحققة من TVA لغاية شهر أيلول 2580722 مليون ليرة بالمقارنة مع 2853279 للفترة نفسها من العام الماضي أي بتراجع 9,55- في المئة. أما إيرادات الجمارك فقد تراجعت لغاية نهاية أيلول العام الحالي إلى 1440947 مليون ليرة، بالمقارنة مع 1531579 مليوناً للفترة نفسها من العام الماضي، محقّقة تراجعاً بنسبة 5,9- في المئة.
وهْم انخفاض النفقات
هذا من جهة الجزء الأهم من الإيرادات، أما في الجهة المقابلة للموازنة، فلم تأت التخفيضات في النفقات على قدر التوقعات، فقد بلغ الإنفاق العام لغاية نهاية أيلول العام الحالي 16730303 ملايين ليرة بالمقارنة مع 18064135 مليوناً للفترة نفسها من العام الماضي، أي بفارق 1333832- فقط أو ما يعدل 7,3- في المئة. في الوقت الذي بلغ فيه عجز الموازنة الكلي في الأشهر التسعة الأولى من العام الماضي حوالى 6- آلاف مليار ليرة، وصل في الفترة نفسها من العام الحالي إلى 4,5- الف مليار، أي بفارق حوالى 1,5 الف مليار، رغم كل الضرائب التي فرضت والتقشف الذي قيل انه سيعُتمد. الفارق المحقق في جهة النفقات ليس حقيقياً، فهناك آلاف المليارات متوجبة على الدولة لكل من مجلس الإنماء والإعمار والكهرباء (تحدد المدفوعات بسلف خزينة) والضمان الإجتماعي وحسابات الخزينة، التي هي بمجملها حقوق البلديات والمستشفيات، والتي من المفروض ان تظهر بقطع الحساب، بعد رفض إدراجها في الموازنات منذ العام 2017، لم يدفع منها إلا الفتات، وهو ما ساهم لغاية الآن بعدم زيادة النفقات بشكل كبير جداً.
العجْز أكثر من 10%
وبحسب رئيس الجمعية الاقتصادية اللبنانية منير راشد فإنه “من المتوقع أن يفوق العجز في الموازنة هذا العام الـ 10 في المئة. فالصرف في الأشهر الثمانية الأولى من هذا العام اعتمد على موازنة العام 2018 بسبب تأخر إقرار الموازنة الحالية لغاية شهر آب. وبالتالي فإن الأرقام المعبرة التي ممكن الأخذ بها، تبدأ في الفصل الرابع من العام الحالي”.
راشد يتوقع “أن تأتي النتيجة في نهاية العام مخالفة كلياً لتقديرات الموازنة، خصوصاً لجهة الإيرادات، التي ستشهد مع انعدام النمو وانخفاض عائدات الدولة من الضرائب والرسوم تراجعاً كبيراً. فانخفاض الإستيراد سيؤثر على عائدات الجمارك، وضعف النمو سينعكس سلباً على مردود الضريبة على القيمة المضافة، كما ان عملية سحب كميات كبيرة من الودائع من المصارف منذ أيلول الفائت سيقلل من نتائج الضريبة على فوائد وعائدات وإيرادات الحسابات الدائنة، وسيجعل من عملية رفعها من 7 إلى 10 في المئة ليست ذات قيمة”.
الفصل الأخير من هذه السنة المالية الذي طعّم بتصنيفات الوكالات الدولية السلبي، قد يشهد فعلياً هذا العام نهاية مسلسل تركيب الموازنات العشوائية. والقطاع الخاص الذي رُمي عليه عبء تمويل الدولة ونفقاتها المتضخمة طيلة سنوات، رفع يديه عالياً، جزءٌ منه أعلن العصيان الضريبي صراحة، والجزء الآخر عاجز عن الدفع أو على طريق الإفلاس والإقفال. والدولة التي لم تنجح لمرة بتخفيض نفقاتها، التي تتوزع على الرواتب وخدمة الدين والكهرباء، حفرت قبرها بيدها، فلا الشعب الجائع سيرحمها ولا المجتمع الدولي سيرشّ على وجهها نقطة ماء